منذ 100 عام - ومن دون مبالغة - اختفى من عالمنا العربي العلماء الحقيقيون، بسبب انكماش العلم وفقدان الحرية الفكرية والعلمية المطلوبة من جهة، وغياب مسلك ومنهج العلماء عند معظم الباحثين المجتهدين ممن يحاولون أن يكونوا في صفوفهم، من جهة أخرى، فتغيب عندهم الحيدة والتجرّد والموضوعية والتسليم بالحقيقة العلمية.
ولا يعني ذلك غياباً مطلقاً للعلماء الذين نجد لهم بين الفينة والأخرى نماذج نادرة، لكنها تظل في هامش النّدرة.
وتسهم في ذلك الدولة التي أهملت العلم ومؤسساته، وتخلّت عن رعاية الثقافة والعلم، حتى صارت تلبّي متطلبات التعلم لمجرّد الحصول على الشهادة لا لكسب المهارات وتكوين الخبرات وتكامل الاحتياجات، لتنهض الدولة من خلاله، بل إنها أهملت مؤسسات التعليم، وأخذت تتعامل معها بلا اكتراث وكأنها تهدمها عمداً، ومَن يتمعّن في سياسات الحكومة بخصوص التعليم والتعلم والعلماء والثقافة، يستغرب مستوى الانحدار الذي بلغته الدولة بهذا المضمار، بعد أن كانت مضرباً للمثل منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي إلى نهاية السبعينيات.
ولعل ظهور طبقة المثقفين والنشطاء في النطاق الفكري والثقافي والسياسي، كان سببًا في ذلك الغياب للعلماء، وهذا التحول لفئة المثقفين، وفي خضمّ حركات الاستقلال والتحرر من المستعمر، والتي كانت عنوانًا للوطنية والقومية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ عالمنا العربي والإسلامي، يضاف إليها الانبهار الحضاري بالغرب، الذي عصف بحالة التوازن لدى معظم مكونات طبقة المثقفين هذه، وهو ما زاد نمط المثقف الذي يسخّر مساهماته الفكرية في تبنّي أو الدفاع عن توجهات فكرية هو أساساً رديف عليها، وليس صانعاً ولا لاعباً أساسياً في تكوينها، أو للانخراط في صفوف المثقفين المناوئين للسلطة، إما لانحياز وطني أو قومي حقيقي في مواجهة سلطة موالية لمستعمر أو للغرب، أو طمعًا في أن يكون له دور في السلطة أو في تولّيها، ومن هنا شهدنا اختلاط حركات التحرر بانقلابات عسكرية يغذّيها مثقفون ويقطف ثمرتها طامحون للسلطة من المثقفين أو العساكر، أو من جاء للسلطة دون إدراك مسؤولياتها ومتطلباتها، فيديرها على البَرَكة، وكأنه يدير عزبة خاصة يهتم بها متى ما رغب ويهملها ويتركها متى ما قرّر، وهو ما شهد حالة من التحولات والتراجعات المتتالية في العديد من البلدان العربية، ولا يكون الاستقرار لأيّ منهم إلا بقدر رغبة المستعمر أو الغرب في بقائه واستمراره، أو بترتيبات مؤقتة يجريها الحاكم للترضيات المرحلية، وفي مقابل ذلك ظهرت طبقة المثقفين ممن رفع شعار التبرير والموالاة المطلقة، فصار همّه الفكري والثقافي التبرير للسلطة وأعمالها، حتى ظهرت لدينا طبقة للمكيافيليين، أكثر تبريراً للسلطة وتعدياتها من مكيافيلي نفسه.
وفي خضمّ تلك الأجواء والظروف، غاب العلماء، وساد المثقفون باتجاهيهم السابقين، مع وجود قلة معتزلة أو متفرجة، أو متفرغة لكتابات لا جدوى منها سوى الهروب بالذات عن الواقع، إلّا أن أزمة المثقف العربي تلك، انعكست على مسار الحياة العامة في دولنا العربية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولا تزال سائدة حتى اليوم، وقد صار هَمّ طبقة المثقفين وأزمتهم الحقة هو الصراع فيما بينهم بجميع انتماءاتهم الفكرية، ليس لبناء مشروع وطني ونهضة وطن، وإلّا ما أعجزهم ذلك عن توحيد الجهود، بل صارت غايتهم أن يحقق كل منهم لنفسه دورًا في أحد الاتجاهين السائدين، فاحتدم الصراع فيما بينهم، وهم يظنون أنهم يُفشلون غرماءهم ويحققون مكسبًا، والحقيقة أنهم يُفشلون وطنهم ويدمّرون مؤسساته، ومع إدراك الأنظمة لهذه الحقائق، فإنها مارست لعبة التغذية والتشجيع المتزامن مع كل الأطراف، إضعافًا لهم من جهة، ولتفكيكهم والهيمنة عليهم من جهة أخرى، والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة في محيطنا.
وإلى أن يعود المثقفون العرب لرشدهم ويعي السياسيون وغيرهم هذه الحقيقة، ويغيروا مسلكهم الذي يبني الأوطان، ستظل الدول العربية تعاني هذا النموذج للمثقف العربي المثقل بأزمته، وهو ما لن يتم إلّا بمشروع وطني تنموي حقيقي بعيدًا عن الصراع والمكاسب الشخصية، خلافاً للتوجه الذي ترعاه الأنظمة وترحّب به، لقِصَر نظرها، وهي بذلك تعجّل بنهايتها كسلطة، ولا شك في أن إهمالها للوطن يعني حتماً سقوطه، ومحصّلته سقوطها عاجلاً غير آجل.