المؤرخون الذين سيكتبون في المستقبل عن السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط خلال ربع القرن الماضي يجب أن تتضمن كتاباتهم فصلاً مطولاً بعنوان «الغطرسة الأميركية»، فالغطرسة هي نقيصتنا القاتلة، إنها عدم قدرتنا على رؤية الآخرين كأنداد لنا أو الاكتراث بتصوراتهم، وتكوين أحكام مغلوطة حول قدراتنا.

كان العقد الأخير من القرن العشرين فترة زمنية عصيبة، فكنا نعتقد أن انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة جعلانا القوة العظمى الوحيدة في العالم، وبناء على ذلك، حشدنا تحالفاً دولياً لتحرير الكويت، وعقدنا مؤتمر مدريد للسلام لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وعقدنا في البيت الأبيض مراسم التوقيع على اتفاقيات «أوسلو»، وأذكت الغطرسة الأميركية الشعور بأن قيادتنا جعلت كل شيء ممكناً الآن، وبعد مرور عامين على اتفاقية أوسلو، اتضح أن السلام لم يتحقق، وتزايدت المستوطنات الإسرائيلية وتزايدت معها البطالة والإحباط الفلسطينيان، وحين أرسلت إلى الرئيس بيل كلينتون مذكرة تحدد العواقب المدمرة للسلوك الإسرائيلي، كان رد «فريق السلام»، في الواقع، هو«اترك الأمر لنا، فنحن نعرف ما سنفعله».

ولم يفعلوا شيئاً، وفُنيت «عملية السلام» أمام أعينهم، ثم جاء رد إدارة جورج دبليو بوش على 11 سبتمبر، فقد كان العالم مستعدا للتصدي بشكل جماعي لآفة الإرهاب، لكن غطرستنا دفعتنا إلى شن حملة شعواء ليس لغزو واحتلال أفغانستان والعراق فقط، لكن أيضاً لإعادة تشكيلهما في دولتين ديموقراطيتين «لنشر الديموقراطية في جميع أنحاء الشرق الأوسط».
Ad


وغطرسة رؤية «المحافظين الجدد» هذه أعمتهم عن الفشل المتكرر، فقد أنكروا التمرد العراقي، ووصفوه بأنه «حفنة من أنصار النظام السابق الساخطين»، واحتقروا الحلفاء الرئيسيين في أوروبا الذين رفضوا دعم مغامرتنا واصفين إياهم بأنهم يمثلون «أوروبا القديمة»، وحين أظهرت استطلاعات الرأي غضب العراقيين من احتلالنا، تعمدوا تحريف النتائج قائلين: إننا نكسب قلوب العراقيين وعقولهم، ففي حمى غطرستهم، لم يتمكنوا من الاعتراف بالواقع، وخلال سنوات حكم بوش الابن، أجرينا استطلاعاً للرأي عبر العالم العربي لفهم رأي العرب في أميركا.

فقد أشار الرئيس بوش إلى أن العرب يكرهوننا ويكرهون قيمنا في الديموقراطية والحرية، لكن من خلال استطلاعنا في دولة بعد أخرى، علمنا أن العرب يحبون قيمنا ومنتجاتنا وإنجازاتنا وشعبنا، لكن ليس الطريقة التي تعاملنا بها معهم، فسياساتنا، لا قيمنا، كانت السبب في تقلص التأييد لنا، وبدأ الرئيس أوباما ولايته عازماً على تغيير هذا الاتجاه، فقد تناول خطابه في القاهرة الغطرسة ووعد بالتفاهم، لكنه لم يفِ بوعده، وفي بعض الأحيان، كان يسألني عن استطلاعاتنا للرأي.

وعلى الرغم من حالة الصعود الارتدادي المبكر، تراجع التأييد للولايات المتحدة إلى مستويات عهد بوش، وكان هذا بسبب تراجع الولايات المتحدة عن الاضطلاع بدورها في معالجة القضية الفلسطينية، ووقوع العراق في قبضة تحالف مؤيد لإيران، والمفاوضات الهادئة، لكنها محمومة للتوصل إلى اتفاق نووي إيراني دون معالجة تدخل إيران الإقليمي، وفي المرة الأخيرة التي سأل فيها عن استطلاعات الرأي، أخبرته عن الانخفاض الحاد.

وكان رده «كانت توقعاتهم كبيرة للغاية»، وكانت إجابتي «أنت من حددت هذه التوقعات الكبيرة»، وأخذ دونالد ترامب غطرسة لسان حالها يقول «وحدي الذي أستطيع إصلاح الأمر»، وأقصى ترامب الحلفاء بخرق الاتفاقات الدولية من جانب واحد وطرح خيار «إما أن تقبل أو ترفض» أمام الصراع العربي الإسرائيلي، وبهذا ترك ترامب العرب في الأرجوحة المدوخة التي ابتدعها.

وورث الرئيس جوزيف بايدن هذه الفوضى، وما زال الحد الأدنى من أهدافه للفلسطينيين وبقية الشرق الأوسط لم يتم الوفاء بأغلبها، وعداؤه تجاه المملكة العربية السعودية الذي يلائم جيداً قاعدة مؤيديه، يقترن بتحيز مناهض للسعودية مزدوج المعايير وواضح للعالم العربي.

ومطالبتنا المستمرة بالحق في القيادة الأخلاقية والسياسية في العالم، على الرغم من تركتنا الكارثية في العراق، والدفاع بلا حدود عن إسرائيل، والاستجابة المتخبطة تجاه الربيع العربي، هي علامة أخرى على غطرستنا، ويمكن قول المزيد عن هذه الإدارات الأميركية وسياسة الولايات المتحدة حول العالم، لكن خلاصة القول هي أن علاقاتنا في العالم العربي تخبطت في الغطرسة.

ونحن لا نعرف المنطقة ولا نهتم فيما يبدو بشعوبها ورغباتهم وتصوراتهم عنا ومعاملتنا لهم، ورؤيتنا من خلال العدسة الضيقة للمصلحة الذاتية (وبسبب السياسة الداخلية، أي سياسة إسرائيل) تجعلنا نخطئ، ونهين بلا داعٍ، ونفشل، وبسبب الغطرسة، لا يمكننا فهم هذه الإخفاقات باعتبارها نتاجاً لسلوكياتنا نحن، بل نرى أن الخطأ في الذين تزدريهم أعيننا.

*رئيس المعهد الأميركي العربي في واشنطن.