أعطت نتائج الاستفتاء في الإكوادور الأسبوع الماضي دفعة جديدة للتوجهات البيئية المناهضة للطاقة التقليدية، إذ صوّت الإكوادوريون بنسبة ناهزت 60 بالمئة لمصلحة وقف استغلال حقل نفطي في حديقة ياسوني الوطنية (المربع 43) بمنطقة الأمازون، بما يحافظ على وضعها كمحمية طبيعية تعدّ من أهم مناطق التنوع النباتي والحيواني، فضلا عن عدد ضخم من أنواع الطيور والبرمائيات في العالم.
وكان من المفترض أن يسهم المربع 43، الذي يضم حديقة ياسوني الوطنية، بـ 12 بالمئة من أصل 460 ألف برميل نفط في اليوم تنتجها الإكوادور التي تعدّ بلدا متوسط الدخل في أميركا اللاتينية، ويعتمد اقتصاده بشكل كبير على النفط، ثم الصادرات الغذائية كالموز والروبيان، ويعاني أكثر من ربع سكانه - خصوصا في مناطق الأمازون - الفقر، حيث استغنت الإكوادور، بموجب هذا الاستفتاء، عن استثمارات محتملة في البنى التحتية للتنقيب عن النفط بـ 16 مليار دولار، حتى مع فشل الحكومة المركزية في الحصول على تعويضات من الأمم المتحدة أو المنظمات البيئية مقابل وقف الأنشطة النفطية في المربع 43.
ويأتي التصويت بشأن وقف الاستغلال النفطي في حديقة ياسوني الوطنية بعد نزاع دام نحو 15 عاما لسكان الأمازون وأنصار البيئة مع الحكومة المركزية، حتى قضت المحكمة العليا في البلاد بالتوجه الى الاستفتاء الشعبي لحسم الموقف الذي حُسم لمصلحة ما اعتبره المصوتون بـ «نعم» انتصارا للطبيعة على حساب مصالح شركات النفط.
بلا مبالغة
وحتى لا تكون ثمّة مبالغة في تصوير آثار وقف التنقيب في منطقة إنتاجها لا يصل حتى 0.005 بالمئة من الإنتاج العالمي اليومي من النفط الخام على أسواق أو مستقبل الطاقة التقليدية، فإنّ فهم ما حدث في الإكوادور يكتسب قيمته إذا فهمناه من ضمن سياقات التوجه العالمي البيئي الداعم للتحول الى الطاقة النظيفة وتعزيز استثماراتها ورفع جاذبية استهلاكها، بالتوازي مع سرعة انتشار السيارات الكهربائية حول العالم بأضعاف ما كانت عليه قبل عقد من الزمان.
نمو «الكهربائية»
فعدد السيارات الكهربائية الذي كان لا يتجاوز 206 آلاف سيارة عام 2013، بحصة سوقية لا تتجاوز 0.2 بالمئة من إجمالي سوق السيارات العالمي، تجاوز حسب آخر إحصائية لوكالة الطاقة الدولية للربع الأول من العام الحالي 12.8 مليون سيارة كهربائية، أي 15 بالمئة من إجمالي سوق السيارات العالمي، أي أن النمو في سوق السيارات الكهربائية فاق خلال 10 سنوات 6200 بالمئة، مع توقّع بلوغ عدد السيارات الكهربائية المبيعة العام الحالي 14 مليون سيارة، بنسبة توازي 18 بالمئة من سوق السيارات العالمي.
والأرقام أعلاه إذا ما أخذناها في الاعتبار مع تطورات مماثلة في سوق النقل العالمي الذي يشمل إلى جانب السيارات قطاعات الطيران والناقلات، فضلا عن وسائل النقل الصغيرة وغيرهما، فإننا أمام بداية لإحداث تحوّل جوهري في قطاع النقل العالمي الذي يستهلك نحو 50 إلى 60 بالمئة من الإنتاج النفطي العالمي، خصوصا في ظل حظر الاتحاد الأوروبي بيع السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل بحلول عام 2035، لتحقيق هدف معلن هو تسريع التحول إلى المركبات الكهربائية ومكافحة تغيّر المناخ، وهو هدف ذو مغزى صوّت عليه البرلمان الأوروبي في ظل واحدة من أقسى أزمات الطاقة التي مرّت على القارة العجوز بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية.
الـ 5 الكبار
ولا تتوقف التحديات المرتبطة بتحولات الطاقة في العالم عند السيارات الكهربائية وتحفيز استخدامها ووضع القيود على استهلاك منتجات الطاقة التقليدية، إنما حتى التوجهات الخاصة بأكبر 5 شركات نفطية مستقلة في العالم، مثل إكسون موبيل وشيفرون وبي بي وشل وتوتال إنيرجيز التي ارتفعت حصة محفظة الطاقة النظيفة من ضمن محفظتها الإجمالية للطاقة من 0.8 بالمئة عام 2015 الى 8.6 بالمئة بنهاية عام 2022، أي بنحو 10 أضعاف ما كان عليه قبل 7 سنوات، لا سيما مع بدء تنفيذ خطة الرئيس الأميركي جو بايدن الضخمة للاستثمار في مكافحة التغير المناخي، عبر تقديم حزم مالية تيسيرية للشركات والمصانع التي تتخلى أو تخفف اعتمادها على الوقود الأحفوري - كالنفط والغاز وغيرهما - لمصلحة إنتاج واستخدام الطاقة النووية والطاقة المتجددة، بدلا من معاقبتها ضريبيا أو حتى جنائيا كجهات متسببة في التلوث بالولايات المتحدة، فضلا عن تشجيع المستهلكين على الاتجاه إلى منتجات الطاقة النظيفة كمنح إعفاءات ضريبية أقرها «الكونغرس» الأميركي في منتصف العام الماضي تصل إلى 7500 دولار لكل من يشتري مركبة كهربائية، ودعم أي شخص يختار تركيب ألواح شمسية على سطح منزله عبر تغطية 30 بالمئة من التكاليف.
نقاش وتطور
لا شك في أن ثمة حديثا طويلا ونقاشات ممتدة ومفتوحة حول مدى إمكانية نجاح السياسات البيئية وقضايا الدفاع عن المناخ، ومدى قدرة التكنولوجيا على تعزيز الاستثمارات الخضراء والوقود الحيوي وخفض تكاليفهما، وتحديات التحول نحو الطاقة المتجددة، وخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، والتي غالبا ما تشهد تطرّفا في الاتجاهين بين طرف يرى أن التحول البيئي أمر محسوم سيقضي على الطاقة التقليدية، وآخر يستهين بالتحولات البيئية التي لن تستطيع أن تزاحم الطاقة التقليدية كالنفط والغاز اللذين يتميزان بوفرة الإنتاج وسهولة الاستخراج، وصولا الى الأسعار «المعقولة» حسب آليات العرض والطلب المتغيرة.
غير أنه لا أحد يستطيع أن يتجاهل أن ثمّة تطورا جوهريا قد حدث في عالم الطاقة من جهة مزاحمة السيارات الكهربائية والاستثمارات النظيفة لمنتجات واستثمارات مماثلة معتمدة على النفط التقليدي، وأن ما حدث في الإكوادور بشأن حديقة ياسوني الوطنية (المربع 43) ليس أمرا منفصلا عن سياسات بيئة متنامية تضع قيودا لم تكن معروفة خلال عقود ماضية على المكاسب المالية الناتجة عن استغلال النفط.
حساسية عالية
ما يهمنا في الكويت بهذا الاتجاه كدولة تعتمد في إيراداتها على صادرات النفط بنسبة 92.7 بالمئة، وفقا للحساب الختامي 2022-2023، ليس المخاوف من أن تحلّ الطاقة النظيفة محل نظيرتها التقليدية أو الأحفورية، إنما مجرّد أن تأخذ السياسات الداعمة لتحولات الطاقة النظيفة حيّزا رديفا يقلل من الطلب العالمي على النفط، وبالتالي الإنتاج الكويتي وأسعاره، وما يمكن أن يتبعه من آثار على ميزانية الدولة وإيراداتها وقدراتها على تلبية مصروفاتها المتنامية بلا توقف عاما تلو الآخر، فضلا عن مستقبل أجيالها وسلامتها المالية والاقتصادية، فنحن في الكويت الأكثر عالميا وخليجيا اعتمادا على النفط، وبالتالي الأعلى حساسية وانكشافا على أي تحوّل مهما كان بسيطا في شكله، كالذي حدث في غابات الأمازون، سيعطي أثرا على الكويت وإيراداتها وإنتاجها النفطي وحقلها الأكبر «برقان الكبير».