حقنة فلسفة لعلها تفيد
لو التقطت أي عينة من جسم المجتمع ووضعتها تحت المجهر فإنك سترى المرض ذاته يتكرر بفيروساته وجراثيمه وآثاره في نقص وخلل الفيتامينات والبروتينات وامتداد آثاره إلى الدم بخلاياه الحمراء والبيضاء بسبب الالتهابات.
اذهب إلى الرياضة كعينة، وخذ أي قطاعاتها على أساس نوعي أو جغرافي وافحصه، واذهب إلى القطاع الإداري في الوزارات وإلى القطاع الخدمي (تعليم، صحة، إسكان)، واذهب للمرور بكوارثه سترى المرض نفسه بأسبابه وأعراضه مُستَنيخاً في كل خلية من خلايا جسدنا الذي ترعاه الحكومة، وبقدر ما يكون الارتباط بين القطاع الخاص والقطاع الحكومي يكون نصيب القطاع الخاص من المرض وأعراضه واختلالاته.
أسباب المرض تكمن في التمرد على القوانين العلمية الحاكمة للكون السياسي الاجتماعي، ونظراً لحساسيتها نجد هذه القوانين تتمظهر بطيلسان الأخلاق الفخم ذي الهيبة والاحترام، ويعد الخروج عليها بالإضافة إلى كونه خطأ خطيئة وإثماً وتنكباً لطريق الأخلاق.
فإذا تم الأخذ بالمحسوبيات والتنفيع كقاعدة في اختيار المسؤولين والعاملين وتجاهل قواعد الكفاءات والعدالة، وإذا تم الأخذ بقاعدة العشوائية وعدم التخطيط وإعمال قواعد وآليات الرقابة والتقييم بعد تحديد الأهداف كمياً وزمنياً، وإذا انتهكت مبادئ المحاسبة وإقامة قواعد العدل والمساواة فإن النتيجة هي ضعف وتدهور الإنتاجية وإهدار للموارد والسرقات واستفحال الجريمة التي قد تصل إلى نكبات وكوارث تتوالد وتتأصل في المجتمع لدرجة نعتقد معها أن هذا المرض مطبوع في جيناتنا، وأنه مرض وراثي خَلْقي، وقد يصل الوهم إلى الشك في ذاتنا، وأننا مأزومون ثقافياً، فأينما وجدنا وجدت مظاهر الأمراض والفوضى والعشوائية، وتجد هذا التعبير عند الكثيرين في جملة «حنا الكويتيين تعودنا، وهذي طبيعتنا»!!
إنها جُمل وعبارات كاذبة، حيث كنا في الماضي أيام البحر في غاية التنظيم، إذ كان كل بوم وكل تاجر وحرفي مستقل في قراراته، وكانوا يديرون أنشطتهم على قاعدة الكفاءة ووفق الخبرة الملاحية والتجارية والصناعية، فأبدعنا في صناعة السفن، وفي علوم الملاحة البحرية، وأبدعنا في التجارة البحرية والبرية، لذا كانت لنا بصمتنا وتفوقنا آنذاك، وعندما نبع النفط، وجاء الشيخ عبدالله السالم، رحمه الله، وانتقلنا الى مرحلة دولة المؤسسات، ووُضعت الأهداف، ورُسمت أنجح الخطط، واتُبعت أرشد الإجراءات بعد الاستعانة بالكفاءات العلمية الكويتية وغير الكويتية خلقنا معجزة في الخليج، وغرسنا أنفس المظاهر والمباهج في الدول المتطورة، فكانت المباني الباذخة والأسواق الفخمة والمطاعم الفارهة، والفن الراقي والثقافة السامقة والرياضة المتفوقة والجامعة التي استقطبت عباقرة العلوم في كل المجالات والتخصصات العلمية، ولكن بعد أن انطفأت حياة «أبو الدستور»، رحمه الله، بدأت شعلة التطور بالخفوت تدريجياً إلى أن وصلنا إلى ما يشبه الانطفاء في كل المجالات والحقول.
وما يؤكد علمية ومصداقية وخيرية القواعد التي تحدثنا عنها أن دولاً قريبة منا كانت تنخرها العشوائية والمحسوبية، ومحكومة بإرادة مشيخية شخصية بعيدة عن حكم المؤسسات والعدالة والمساواة والتخطيط العلمي بعد أن ضربت كل ما سبق، وأخذت بالقواعد الحضارية العلمية الأخلاقية التي كانت تحكمنا، فانظروا ماذا حققت؟ وكيف فتكت بالتخلف والتراجع؟ وها هي تتمظهر بفخامة ورفاهية وتطور في كل المجالات، حتى أن أهل باريس وأوروبا يحلمون بزيارتها، وكيف حرقت المراحل، فما نبنيه في عشرات السنوات يبنونه في بضعة شهور وفق أفخم تصميم وأرخص سعر، إنها تجربة دبي والمملكة العربية السعودية، فزحفت إليها رؤوس الأموال من كل مكان حتى الكويتية.
لذلك قيل إن ما يثبت قانونية القانون هو تكرار نتائجه متى وجد، وفي تراثنا الفقهي بأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فلا خلاص ولا فلاح إلا بالأخذ بقواعد العلم والأخلاق، فهي الحق الذي قامت عليه السموات، قال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ».