البروفيسور «راجو»

نشر في 01-09-2023
آخر تحديث 31-08-2023 | 19:16
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

كان الغرب يبعثون أبناءهم للدراسة في بلاد العرب أيام الحضارة الأندلسية، وكان طلبتهم يتباهون بالحديث باللغة العربية وكتابة الشعر والرسائل، ليظهروا مدى ثقافتهم وتطورهم أمام زملائهم، أما الآن فانقلبت تلكم الصورة المشرقة.

أذكر عندما كنا طلبة في أميركا كان أغلب الأساتذة أميركيين، وكنا نأخذ منهم المعرفة واللغة، وإذا لم تكن المعرفة مجزية في بعض المحاضرات، كنا أقل ما فيها نستفيد السماع والحديث مع الأستاذ بلغته الأم التي يجيدها بلباقة، والتي تغربنا من أجل تعلمها، فكان الطالب في الحالتين مستفيداً، ولكن المفاجأة، أو «المقلب» عندما دخل علينا بروفيسور «هندي» ليدرّسنا باللغة الانكليزية! فصار علينا جهد آخر لتفكيك أو تخمين ما يريد أن يوصله لنا هذا الأستاذ الهندي، والمصيبة الأكبر إذا لم يكن أستاذا متمكنا في ايصال المعلومة للطلبة، فقد خسرنا بذلك الاثنين (لا علم ولا لغة) ولا شخصية! وعلى الرغم من ذلك كان وجود الأساتذة الأجانب لا يضر كثيرا، لقلة عددهم في الجامعة.

تخيلوا معي لو كانت الجامعة كلها أساتذة أجانب يحاولون التدريس باللغة الإنكليزية، مصيبة، هل تعلمون أن كل جامعاتنا الخاصة تدرِّس باللغة الانكليزية؟! فما رأيكم؟ هل نسمي هذا تطوراً؟!

إن المواد التطبيقية التي تعتمد على رموز علمية كالفيزياء والكيمياء لا يضر تدريسها كثيرا باللغة الانكليزية، لكن الكارثة عندما ندرس الآداب والفنون بلغة أجنبية في بلادنا! فالأدب والفن هما تراث الأمة وهما هويتها وشخصيتها، فلا توجد أمة تُعلّم ثقافتها وهويتها بلغة غيرها، وكلنا نعلم أن اللغة العربية أعظم وأثرى من اللغات الأخرى.

إن إهمال المستويات العليا في اللغة الأم كإهمال المعادلات الرياضية المتقدمة التي تفكك المسائل المعقدة، وإن استيعاب الحمولة الثقافية العربية لا يكتمل في منهجيته إلا بالتعمق في اللغة الأم، فاللغة ليست رموزا جامدة، بل معاني حية، لها أصول وجذور وتأويلات واشتقاقات وتفرعات، فلابد من إدراكها جيدا للتوصل إلى ما هو أدق وأوضح وأبعد في النظر، فاللغة ليست أداة لقضاء الحاجات الأساسية ومعرفة ظاهر الحياة فقط، بل هي أداة للتفكير بالدرجة الأولى، وكلما كانت أداتك التي تتقنها عظيمة، كان تفكيرك أعظم، وفهمك أحكم، وتعبيرك أبين.

عزيزي القارئ هل تعلم ما الحرب الناعمة؟ هي أن أغزو فكرك برضاك، وأن أغيّر ثقافتك برضاك، وأن أُلبسك لباسي برضاك، وأن أُبدل لغتك بلغتي برضاك، ظنا منك أنها حضارة، لأنك تراني أعظم منك!

يقول «ريتشارد نيكسون» واصفا الحرب الباردة: إن الرجل لا ينتهي عندما يُهزم، بل ينتهي عندما يتوقف عن المقاومة.

في الختام أود أن أقول، إن ابتعاث طلبتنا للدراسة في الخارج، والاطلاع على ثقافة الآخرين في البلدان المتطورة مدنيا، أمر مهم بلاشك، ولكن أن نرى الأساتذة العرب يدرّسون طلبتنا بالانكليزية على أرض عربية، فهذا شيء مؤسف، يشعرنا بذوبان الهوية والتبعية.

back to top