لعل من بين ما تتميز به الطبقة السياسية الفرنسية هو عكوف رؤساء الجمهورية الفرنسية الخامسة على إعداد مذكراتهم ونشرها بعد أن يغادروا سدة الحكم ويتحرروا من الكثير من واجبات ومسؤوليات وأعباء وصعوبات هذا المنصب الذي يصلون إليه، وأحيانا كثيرة بشق النفس، وبحسب نظام ديموقراطي انتخابي مباشر.
تعاقب على منصب رئيس الجمهورية منذ قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958 رؤساء أولهم الرئيس شارل ديغول وآخرهم إيمانويل ماكرون الذي ستنتهي ولايته الثانية والأخيرة عام 2027، ولسنا بحاجة لأن نذكر بأن أهم هذه المذكرات الرئاسية هي مذكرات الجنرال ديغول، وقد صدر في هذا الشهر أغسطس الجزء الثاني من مذكرات الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي كان رئيسا ما بين 2007 و2012، وعنوان هذا الجزء (زمن المعارك).
صدرت الطبعة الأولى من مذكرات الجنرال ديغول عن الحرب العالمية الثانية في ثلاثة أجزاء لتغطي سنوات 1940-1946، وحمل الكتاب الأول عنوان: النفير، والثاني: الوحدة، والثالث: الخلاص. ولم تتح الفرصة للرئيس الثاني جورج بومبيدو لكتابة مذكراته لأنه توفي عام 1974 نتيجة إصابته بسرطان الدم وهو لا يزال في منصب رئيس الجمهورية الفرنسية.
نشر الرئيس الفرنسي الذي خلفه ونقصد فاليري جيسكار ديستان، وبعد أن غادر منصبه مع انتهاء ولاية حكمه مذكراته في جزأين عام 1991 وهي بعنوان (السلطة والحياة: الصراع)، وخلفه فرانسوا ميتران عام 1981 الذي أكمل ولاتين في الحكم مدة كل واحدة منها سبع سنوات، وشغل بهذا الشكل منصب رئيس الجمهورية الخامسة لأطول فترة في تاريخها، ونقول ذلك لأنه تم تعديل الدستور الفرنسي وتم تقليص مدة حكم رئيس الجمهورية لتصبح خمس سنوات بعد أن كانت سبع سنوات، ولا يمكن إعادة انتخاب الرئيس إلا مرة واحدة بمعنى أن الرئيس لن يبق في منصبه أكثر من عشر سنوات في حال إعادة انتخابه.
الرئيس ميتران كان كاتبا وقارئا نهما للكتابة، والدليل على ذلك صورته المعتمدة كرئيس للجمهورية يظهر فيها وهو جالس وبين يديه كتاب مفتوح، وظهر بشكل يخالف الشكل التقليدي المتعارف عليه حيث يظهر من سبقه من الرؤساء الفرنسيين بزي رسمي خاص، وكتب ميتران عدة كتب سياسية وكان غزير الكتابة والنشر، وصدر له 20 كتابا، حسب ما أحصاه أحد كتاب سيرته، من بينها ثلاثة كتب مذكرات.
وخلف ميتران في عام 1995 الرئيس الفرنسي المعروف في الأوساط العربية جاك شيراك، لم يكتب هذا الأخير مذكراته بل اتبع أسلوبا اعتاد عليه بعض الرؤساء من خلال تبادل الأحاديث والذكريات مع صحافي ليتم لاحقا نشر هذا الحوار المطول عامي 2009 و2011 في جزأين، حمل الجزء الأول عنوان: يجب أن تشكل كل خطوة هدفا، وكان الجزء الثاني بعنوان: زمن الرئاسة.
الرئيس فرانسوا هولاند أمضى فترة ولاية لمدة واحدة فقط، وتطرق في كتابين، وبعد أن غادر الحكم، إلى جوانب مختلفة من الذكريات والمختلف المواقف المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية لفرنسا في أثناء حكمه.
ونشر كما ذكرنا الرئيس ساركوزي مذكراته في جزأين، وأثار الجزء الثاني الصادر في أغسطس الماضي ردود فعل مختلفة ومتباينة وبخاصة فيما يتعلق بموقفه من الحرب في أوكرانيا، وهو موقف لا يتوافق كلية مع موقف الرئيس الحالي ماكرون، كما أن من يقرأ مذكراته يشعر بسعي هذا الرئيس السابق لتأدية دور، ولو بشكل غير مباشر، في الحياة السياسية الفرنسية، وكأنه يقول لنا لم أعد رئيسا ولكن لي رأيي وعندي مقترحات لشكل هذه الحياة السياسية في السنوات القادمة.
لا بد أخيراً من أن نثني على هذه العادة المتبعة في الأوساط السياسية الفرنسية من خلال نشر المذكرات التي لا يمارسها رؤساء جمهورية سابقون فقط، بل يمارسها رؤساء وزراء ووزراء سابقون وزوجاتهم أيضا، وعدد من المستشارين الذين كانوا حول هؤلاء الرؤساء والوزراء، مما يوسع المساحة الإعلامية والثقافية الفرنسية، ويسمح لمتابعي هذه السياسة بالتعرف على حقيقة الأوضاع التي مر بها هذا البلد الأوروبي داخليا وعالميا، والوقوف على تفاصيل أساسية ومهمة كانت مجهولة من قبلهم.
وتظهر لنا أيضا هذه المذكرات بأن هؤلاء الرؤساء وكغيرهم عرضة للخطأ والصواب، وتعكس شفافية مطلقة للحياة السياسية الفرنسية، وتسمح أيضا بالتعليق إيجابا أو سلبا على مواقفهم وسياساتهم وسيرة حياتهم وقد رضوا أن يحتكموا للتاريخ ولشعبهم.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا