الناس فيما يعشقون من الأسفار مذاهب، فمنا مَن يسافر لحضور مباراة فريق رياضي يشجعه، ومنّا من يسافر للهدوء والاستجمام، أو لغرض علاجي، أو دراسي، أو ديني. وهناك صنف من القانونيين لديهم شغف بتتبّع تطور مؤسسات القانون في دول العالم المختلفة، ولا غرابة في ذلك، فهناك من حوادث التاريخ حولنا شواهد.
خذ على سبيل المثال لا الحصر فرنسا بعد ثورتها في نهاية القرن الثامن عشر، وكيف بدأت فيها إرهاصات جديدة لم تكن قبل الثورة، كالتشريعات المدونة، وتنظيم دور المحاكم، واستحداث مؤسسات قانونية جديدة كمجلس الدولة الفرنسي، حيث يدفع ذلك ذوي الاهتمام من القانونيين إلى الذهاب لزيارة فرنسا. وعلى نفس الطريق وبعد الثورة الأميركية ضد التاج البريطاني، بدأ عصر دولة القانون الحديثة في الولايات المتحدة. أنا شخصياً من هؤلاء القانونيين المشغوفين بتتبّع السير التاريخي لمؤسسات القانون، فقد بدأت قصتي مع واشنطن بقضاء سنة كاملة بكلية القانون في جامعة جورج تاون، قبل بضع سنوات، تخللها زيارات لمزاراتها القانونية العديدة، وحتى في الزيارات اللاحقة لواشنطن، لا أمَّلُ تكرار الزيارة لبعضها، وما دفعني لكتابة هذه المقالة الرغبة في تقديم فائدة لأولئك الراغبين في زيارة بعض من هذه المزارات.
أكتب هذه المقالة الآن من أحد المقاهي في العاصمة واشنطن، فقبل أيام، وأثناء قيامي بجولة في مكتبة «الكونغرس»، طرأت لي فكرة أخذ صور لبعض هذه المزارات وتقديمها في مقال قصير للمهتمين، لننطلق إذن!
أول هذه المزارات كليات القانون، ومن أهم كليات القانون في واشنطن العاصمة على التوالي: كلية جورج تاون للقانون، وكلية جورج واشنطن للقانون، وكلية القانون بالجامعة الأميركية، ويمكن زيارة هذه الكليات من دون دعوة مسبقة، والتجول في أروقتها ودخول قاعاتها بعد الاستئذان من الأساتذة لحضور محاضرة أو ندوة في موضوع ما. إلا أن دخول المكتبات بها يحتاج إلى إذن مسبق، وغالباً ما يتم منحه بطريقة ميسّرة ولفترة قصيرة للاطلاع فقط. والزيارات المسبقة لهذه الكليات تفيد من يرغب في الدراسة بإحداها، على وجه الخصوص إذا أراد عقد مقارنة لاختيار الأصلح له. وتقع جميع هذه الكليات في أماكن آمنة جغرافياً، إلّا أن كلية جورج واشنطن للقانون تتميز بوقوع مبانيها على الشارع مباشرة في قلب العاصمة الأميركية، وتحيطها شوارع حيوية تكتظ بالمطاعم والمقاهي مقارنة بمثيلتيها.
ويأتي وجود هذه الكليات في العاصمة ببعض المزايا لمن يدرس فيها، فخلال السنة الدراسية، تنظم هذه الكليات ندوات يحاضر فيها قضاة من المحكمة العليا للولايات المتحدة Supreme Court of the United States، ويتسنى للطلبة الحديث معهم بشكل مباشر بشأن أحكامهم التي أصدروها وإبداء بعض الملاحظات عليها. وكثيراً ما تدعو هذه الكليات أعضاء من «الكونغرس» الأميركي بغرفتيه الممثلتين لمجلس النواب ومجلس الشيوخ، لمناظرتهم في قوانين أصدروها، وجلسات استماع حضروها، وقد جرت العادة أن يرحب «الكونغرس» بدارسي القانون على اختلاف جنسياتهم، ممن يرغبون في التدرب لفصل دراسي بمكاتب أحد أعضاء مجلس النواب أو مجلس الشيوخ.
وعلاوة على ذلك، تدعو هذه الكليات بعض السفراء بواشنطن للحديث في ندوات تتعلق بمستجدات الساعة في مواضيع ما. ومع انقضاء السنة الدراسية، سيجد الطالب أنه التقى شخصياً مع واضعي القانون من المشرّعين ومُصدري الأحكام من القضاة ممن يرسمون السياسات العامة في مواضيع قانونية تقع ضمن اهتماماته، باعتباره دارساً لها، ولا يقتصر ما ذُكر على الطلبة، بل يشمل الزائر أيضاً إذا ما حالفه الحظ بوجود مثل هذه النشاطات أثناء زيارته.
وثاني هذه المزارات الكونغرس الأميركي، والدخول له مجاني، ويحتاج الزائر يوماً بأكمله أو أكثر لزيارته، فالكونغرس هو تجسيد حي للديموقراطية الأميركية، التي عزلت سلطة رئيس الدولة عن أي تدخل في مهام السلطة التشريعية، فلا يستطيع الرئيس الأميركي حل الكونغرس مقارنة بديموقراطيات دول أخرى، بل يستطيع الكونغرس بحث طلب عزل رئيس الدولة، وهذا ما حصل مع الرئيسين السابقين كلينتون وترامب.
ويستطيع الزائر للكونغرس رؤية تسلسل زمني لعملية التشريع وكتابة القوانين، ودخول قاعات مجلسي النواب والشيوخ أثناء عقد الجلسات بصفة زائر، للاطلاع بشكل مباشر على عملية مناقشة مشاريع القوانين وجلسات الاستماع التي تقام لاستجواب بعض موظفي الدولة، وسماع شهادات في مواضيع تدخل ضمن مهام السلطة التشريعية، بل وبدء حديث جانبي مع بعض الأعضاء، والدخول للقاعة المستديرة في الكونغرس التي تمثل رمزية لتطور التشريع عبر سرديات بلوحات تاريخية.
وفي الجانب الآخر من مبنى الكونغرس تقع مكتبات عظيمة: مكتبة الكونغرس، وهي أكبر مكتبة في العالم حيث تحتوي على أكثر من 175 مليون قطعة ما بين كتب، ومخطوطات، ومواد مرئية ومسموعة، ولوحات وتحف نادرة، ويستطيع الزائر طلب الاطلاع على جميع المحتويات بلا استثناء، إنها بحق مكتبة رائعة ذات تفاصيل هندسية جميلة، وفي ذات الوقت متناهية الدقة. وتيسر مكتبة الكونغرس للمؤلفين من جميع دول العالم تسجيل أعمالهم الأدبية ومصنفاتهم الأخرى التي تنطبق عليها الشروط في مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية ومن ثم ضمها لمجموعة مكتبة الكونغرس حيث تمنحها حماية دولية ضد الاعتداء على الملكية الفكرية. ويقابل مكتبة الكونغرس العامة مكتبة أخرى، وهي مكتبة الكونغرس القانونية التي تعد أكبر مكتبة قانونية بالعالم إذ تحتوي على ما يقدر بخمسة ملايين كتاب في شتى فروع القانون، والدخول لها مجاني، ويستطيع القانونيون باختلاف مهنهم وتخصصاتهم زيارتها وتصوير بعض الكتب فوتوغرافياً برسوم بسيطة.
وتمثل المحاكم على اختلاف درجاتها ثالث المزارات القانونية، وأهمها بالطبع المحكمة العليا الأميركية، وهي أول محكمة عليا لنقض الأحكام في العالم، وقد أسست في عام 1789 وألهمت غيرها من الدول لتأسيس كيان مثيل، وهذا ما حدث في فرنسا مع إنشاء محكمة النقض الفرنسية في عام 1791. وتقع المحكمة العليا الأميركية مقابل مبنى الكونغرس الذي تعلوه كولومبيا، المرأة ذات النصر المجنح التي تمثل تاريخ الولايات المتحدة، والمستقى اسمها من كريستوفر كولومبوس.
وقرب المبنيين من بعضهما يمثل رمزية سلطة الشعب في التشريع، وسلطته في مراقبة القوانين المشرعة. وداخل مبنى المحكمة، يمكن الاطلاع على تفاصيل الدعاوى التي فصلت فيها المحكمة عبر تاريخها، والدخول لقاعة المحكمة الرئيسية وقاعة المداولة، ومكتبة المحكمة، وقاعة الزوار، ومعارض القانون المقامة داخلها، مروراً بمحل للهدايا حيث يستطيع الزوار شراء بعض التذكارات. إلا أنه ومن النادر جداً السماح للعامة بحضور جلسات مباشرة، لما تمثله الدعاوى من أهمية حيث تقتصر القاعة على وجود المحامين والأطراف فقط، لحساسية مثل هذه الدعاوى أو لعدم قدرة القاعة على استيعاب عدد كبير من الجمهور.
وهناك العديد من المحاكم الأخرى التي يسمح للعامة بدخولها، كمحكمة الاستئناف الخاصة بواشنطن العاصمة، وغيرها من المحاكم الفدرالية، والمحاكم ذات الطبيعة الخاصة كمحكمة الضرائب الفدرالية، التي تعد أعلى محكمة في الولايات المتحدة للبت في منازعات الضرائب، والمحكمة الخاصة بالمطالبات الفدرالية المتعلقة بالشؤون المالية ضد حكومة الولايات المتحدة. والممتع في الأمر هنا أنه يمكن للقانونيين من دولنا حضور جلسات بها هيئة محلفين والتمعن في إجراءاتها وطرق سير الدعاوى فيها، وهو نظام لسنا معتادين عليه في منطقتنا لاختلاف الأنظمة القانونية، كل ذلك رهن موافقة هيئة المحكمة للسماح للعامة بحضور الجلسات، دون النظر للجنسية التي يحملونها.
ورابع هذه المزارات الوكالات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ومن أهمها: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فالزيارة مجانية كذلك، ويستطيع المهتم بالاطلاع على مشاريع التنمية التي قام بها البنك الدولي، وعقودها المكتوبة مع الدول الأطراف في أرشيف المبنى - مع السماح بتصوير المستندات - وذات الأمر يتعلق بصندوق النقد الدولي فيما يتعلق بأرشيف المواد المتعلقة بالتجارة الدولية ومجالات التمويل والاستقرار المالي، كما أن حضور الندوات وورش العمل بهما جائز بشروط. إضافة إلى ذلك المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية التي لها مهمات ذات نتائج ما زالت تعود بالنفع على المجتمع، ومنها منظمة الصليب الأحمر الأميركية، ومعهد الولايات المتحدة للسلام المتخصص في تعزيز القدرة على بناء السلام في مناطق الصراعات.
وتمتاز واشنطن العاصمة بوجود عدد لا بأس به من مراكز التفكير Think Tanks وهي مراكز بحثية هدفها تقديم الدراسات التي من شأنها المساهمة في رسم السياسات العامة في مواضيع ما، فهي مراكز مهمتها البحث المعمق في مواضيع الساعة عبر تقديم حلول لصناع القرار.
ومن أهم مراكز التفكير في واشنطن: معهد دول الخليج العربية المختص بمتابعة سياسات دول الخليج الست، ومناخاتها الاقتصادية والقانونية، من أجل تعريف المؤسسات الأميركية ذات الاهتمام بها، ويرأس المركز دبلوماسيون سابقون ويمكن زيارته وحضور ندواته التي تعقد باستمرار. وتتنوع باقي مراكز التفكير، وأهمها المختصة بقوانين حرية التعبير، وتنظيم الهجرة، وأخلاقيات التعامل في المسائل القانونية الراهنة.
وخامس هذه المزارات المتاحف، وهي مجانية تماماً، وتتيح للزائر أن يرى عرضاً تاريخياً لأحداث مضت، وتم معالجتها عبر إصدار قوانين تعالج آثارها السلبية. هذه الأحداث قد تتعلق بجماعة معينة أو بصنعة ما، وأشهرها المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم، فهذا المتحف المفتتح حديثاً يسلط الضوء على تاريخ العبودية في الولايات المتحدة وكفاح الأميركيين من أصل إفريقي على التحرر منها، عبر مرحلتين مهمتين: الأولى تعديل الدستور الأميركي بعد الحرب الأهلية الأميركية في القرن التاسع عشر المتعلق بإلغاء العبودية، الثانية: مواصلة كفاحهم حتى نيلهم كافة حقوقهم المدنية في منتصف ستينيات القرن الماضي. والمتحف الوطني للأميركيين الأصليين هو المتحف الآخر الموازي لشهرة الأول، يعرض هذا المتحف تاريخ السكان الأصليين وحوادث الإبادة التي لحقت بهم، انتهاء بصدور القوانين المتعلقة برد الاعتبار لهم.
ومن المباني المهمة الأخرى التي تحتوي متحفاً: مبنى أرشيف المحفوظات الأميركية، وفي داخل هذا المبنى يمكن للزائر إلقاء نظرة على النسخة الأصلية لوثيقة استقلال الولايات المتحدة المحررة في عام 1776، للدستور الأميركي المكتوب في عام 1787، لوثيقة اعلان الحقوق المتعلقة بالتعديلات الدستورية الجوهرية الصادرة على دستور الولايات المتحدة في عام 1789.
أخيراً، هناك مزارات قانونية متفرقة لا بد من زيارتها في العاصمة الأميركية واشنطن، ولكن بإذن مسبق، ومنها: المبنى الرئيسي لهيئة أسواق المال الأميركية، البنك المركزي الأميركي، وزارة التجارة الأميركية، وزارة العدل الأميركية، مبنى مكتب التحقيقات الفدرالية، مكتب النقش والطباعة التابع لوزارة الخزانة الأميركية والذي يتولى مهام تصميم الدولار الأميركي وطباعته، ومقر جريدة واشنطن بوست الأميركية الشهيرة التي تعنى بأمور عديدة لها علاقة بالقانون وتطبيقه.
ولا يتبقى من القول سوى نصيحة تجنّب زيارة واشنطن في الصيف، لارتفاع درجات الحرارة والرطوبة بها، فلا يوجد أفضل من فصلَي الربيع والخريف لزيارتها، حيث تتميز أجواؤها فيهما بالاعتدال.
* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال
كلية الحقوق - جامعة الكويت