لقد أصبح من المسلم به أن الحياة المعاصرة، المرتكزة في أدق تفاصيلها على التواصل العابر للحدود واتفاقات التعاون الدولي وسياسات الانفتاح، قد أجبرتنا في علاقاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن نكون على احتكاك يومي مع أطراف آخرين، قد يقفون على الطرف المعاكس من منظومة المعتقدات والأفكار والتقاليد والمصالح التي تتحكم في قناعاتنا وتصرفاتنا.
هذا الأمر يجعلنا في أمس الحاجة لاعتماد سياسات الحلول الوسطى وتدوير الزوايا بهدف تعزيز العلاقات، أو تثبيت الوقائع، أو تحقيق أكبر قدر من المكاسب المعنوية أو المادية، أو درء المخاطر والتهديدات، أو التأثير بالآخرين... إلخ، ولا يتأتى كل ذلك إلا من خلال إتقان مهارات التفاوض التي من شأنها أن تخلص إلى نتائج مرضية للكافة، سواء أكان ذلك على صعيد الأفراد أم على صعيد المؤسسات والدول، ويتساوى في هذا الشأن أكان موضوع التفاوض سياسياً أم تجارياً أم عسكرياً أم مهنياً أم اجتماعياً.
من هنا تتبلور أهمية التعرّف على بعض أساليب التفاوض المستخدمة في الأروقة وعلى الطاولات المستديرة أو الموائد الدبلوماسية، التي تستخدم فيها كل فنون التواصل ومهارات التفاهم وأساليب التشدد وتكتيكات التنازل، بحسب الحاجة والظروف.
• فقد تستخدم المفاوضات أسلوب التعاون من خلال التركيز على العمل المشترك وتحقيق المصالح الجماعية والبحث عن حلول مبتكرة تلبي رغبات كل الأطراف بهدف تمتين العلاقات وتعزيز استدامتها.
• وعلى العكس من ذلك، وفي حال التعارض الواضح في المصالح ووجود توتر جليّ في العلاقة بين الأطراف، يتم استخدام أساليب الضغط والتلاعب والمراوغة للوصول إلى نتائج تفضي إلى تحقيق المصلحة الخاصة بالجانب الأقوى.
• كحل وسطي يتمحور الأسلوب التفاهمي حول الاستماع والتفهم بهدف توضيح الأهداف والاحتياجات وبناء ثقة تؤدي الى التفاهم على تحقيق مصالح مشتركة.
• من جانب آخر ترتبط المفاوضات في بعض الأحيان بما يسمى الوساطة المحايدة، حيث يتدخل طرف محايد أو وسيط نزيه يحوز ثقة الأطراف المتنازعة أو المتنافرة بهدف تقريب وجهات النظر بينها وتهدئة الأوضاع وربما الوصول إلى حلول مرضية، وهذا ما قد يرتبط بطريقة أو بأخرى بما يسميه البعض التفاوض التسكيني الهادف إلى تهدئة التوترات القائمة بين الأطراف المعنيّة وربما تجميدها، وذلك بسبب صعوبة الوصول إلى حل نهائي للصراع أو النزاع المحتدم.
• وفي السياق يشير بعض المتخصصين إلى التفاوض الاستكشافي الذي يدلّ من اسمه على أنه يستهدف استكشاف نوايا الأطراف المعنيّة واستطلاع مواقفها ومدى قبولها وتقبّلها لبعض المقترحات والحلول، تمهيداً للدخول في مفاوضات ثنائية أو جماعية نهائية وحاسمة.
***
من شروط نجاح أي مفاوضات الاستعداد الجيد لها من خلال التحضير المسبق والتحليل الجيد للقضايا المطروحة والمعرفة التامة بالمصالح المستهدفة من جميع الأطراف، إضافة إلى تمتع المفاوض ببعض المواصفات التي تمكّنه من حسن تمثيل صاحب المصلحة كالمصداقية والحرص على السرية وكتمان المعلومات، إضافة إلى الجدّية في مقاربة الأمور وإتقان استخدام الجرعات اللازمة من الشدة والمرونة والتنازل في التوقيت المناسب.
يتطلب الأمر في بعض الحالات من المفاوضين واجب الإسراع إلى استنباط الحلول اللازمة- التي عادة ما تكون مكلفة وقاسية- وخصوصا في أزمنة وظروف التوترات الكبرى والنزاعات الدامية، وهذا يشترط وجود مهارات قوية في التفاوض وتحمل استثنائي للضغوط وإدارة حصيفة للصراع والحوار، وحسن استخدام اللين وأوراق الضغط في اللحظة المناسبة. ومهما اختلفت أساليب وأنواع المفاوضات ومهما تعددت أسماؤها ومستهدفاتها، أول ما يجب أن يحرص عليه المفاوض هو العمل على تكريس الثقة وبناء العلاقات من خلال استخدام أفضل مهارات التواصل والاستماع والتطمين والمرونة والقدرة على التكيّف وامتصاص الغضب، وتفادي العقبات التي قد تعترض العملية التفاوضية، وذلك بإظهار- ولو من قبيل التسكين والتهدئة- كل مؤشرات الاستعداد للتعاون والتنازل عن بعض المواقف أو المصالح التي يدافع عنها، ويكون ذلك من خلال الحوار البناء القائم على الاحترام المتبادل والتعبير اللائق والمدروس عن وجهات النظر مع تطمين الأطراف الأخرى بالاستماع إلى آرائهم المختلفة وأخذها بعين الاعتبار.
قد تؤثر البيئة المحيطة في إنجاح التفاوض أو على الأقل بتسهيل مهمة المفاوضين، لذلك قد يستخدم عن قصد أسلوب «مفاوضات المائدة» في الحالات التي يكون فيها الابتعاد عن الرسميات والجو المريح والمناخ الودّي مفيداً ومؤثراً في تمتين أواصر الصداقة وكسر الحواجز، حيث من شأن مشاركة الطعام أن يؤثر في تعميم نوع من الارتياح وتخفيف التوتر وصولاً إلى بناء علاقات إنسانية وشخصية بين المفاوضين، الأمر الذي يعززه الاحترام المتبادل للثقافات والعادات من خلال الحرص مثلاً على وجود أطباق محلية يلامس وجودها الشعور القومي أو الشخصي للمفاوض الآخر.
وفي السياق قد يتطلب نجاح المفاوضات استخدام أجواء أخرى مختلفة، كالتحدث في الأروقة واللقاء في الغرف المجاورة بعيداً عن صخب القاعات الكبرى، وتحاشياً للأضواء المسلطة، وفراراً من وسائل الإعلام، مما يتيح للمفاوضين- وخصوصاً التقنين- التركيز على بعض المسائل الفنية الدقيقة، خصوصاً تلك التي قد يؤدي النقاش الجماعي فيها الى تضييع بوصلة النقاش وتشتيت التركيز عليها.
خلاصة القول أن التفاوض على اختلاف أنواعه ومرتكزاته يعد عملية تفاعلية تعتمد على مهارات الفهم والاتصال والتعاون بما يمكن الأطراف من التوصل إلى اتفاق يحقق المصالح الفردية أو الجماعية المستدامة بطريقة عادلة أو مرضية على الأقل.
* كاتب ومستشار قانوني