مميزات النظام الغذائي في البحار

نشر في 06-09-2023
آخر تحديث 05-09-2023 | 19:09
 د. سليمان المطر

تنتج البحار نحو 90 مليون طن سمكاً سنويا من مختلف الأنواع والأحجام، وكمثال على ضخامة هذه الكمية فإنه لو وضعت هذه الأسماك فوق بعضها لبلغ حجمها أكبر بنحو 30 مرة من حجم أهرامات الجيزة، وصيد هذه الكميات من البحار مستمر منذ أن بدأ الإنسان استخدام التقنيات الحديثة في السفن الكبيرة منذ أكثر من ثمانين سنة، وربما يتساءل البعض عن السر وراء غنى البحار ووفرة خيراتها مع استمرار صيد الإنسان كميات هائلة من الأسماك والكائنات البحرية على مر السنين مقارنة بالحياة البرية التي لم تعد مصدراً للغذاء كما كانت من قبل، فيكمن الجواب في نمط التغذية في البحار مقارنة بأنماط التغذية على اليابسة.

النباتات المجهرية (الطحالب)

نرى على اليابسة الأشجار المعمرة ذات الأوراق الكثيفة والجذوع والجذور الكبيرة، أما في البحار فلا توجد مثل هذه الأشجار الضخمة بل تهيمن فيها النباتات الدقيقة المجهرية التي لا تُرى بالعين المجردة وتسمى الطحالب الهائمة، وهذه الطحالب عمرها قصير حيث لا يزيد على بضعة أيام، وتتميز بتكاثرها السريع، فالخلية الواحدة منها تنقسم إلى خليتين خلال 24 ساعة، وهي تنتشر على سطح الماء وفي عمود الماء إلى عمق 200 متر، وتشكل بطبيعتها غذاءً مستداما للكائنات الحيوانية الصغيرة مثل يرقات الأسماك ويرقات الربيان والقواقع وآلاف الكائنات الصغيرة الأخرى التي تهيم في الماء، وبالرغم من تغذية هذه الكائنات الحيوانية على الطحالب فإن ذلك لا ينقص من وفرة هذه الطحالب بسبب معدل تكاثرها العالي.

الغذاء منتشر في مياه البحار

تعمل الأمواج والتيارات البحرية على خلط الكائنات الحية وغذائها، الأمر الذي يجعل الطحالب تنتشر على سطح الماء وفي الأعماق، وتكون بذلك في متناول العديد من الكائنات الحية الصغيرة، وأهمها يرقات الأسماك، ومقارنة بذلك لا نرى مثل هذا النمط من التغذية بشكل كبير وواسع في البيئات اليابسة، ففي اليابسة تلتقط بعض الطيور الحشرات وهي طائرة في الهواء أو تتعلق بعض الفرائس كالحشرات في بيوت العناكب، غير أن وفرة الغذاء وانتشاره في البحار وشيوع التغذية في الأعماق هي صفة خاصة بالبحار، فلو تخيلنا هذا النمط من التغذية على اليابسة لرأينا الهواء مملوءاً بالكائنات الحية تنتشر في كل اتجاه، ولا مفر من دخولها في أجواف الحيوانات والبشر.

الصغير يأكل الكبير

تعدّ الطحالب المجهرية الوفيرة في البحار القاعدة الأساسية لغذاء الآلاف من الكائنات الحيوانية الصغيرة الهائمة في الوسط المائي مثل يرقات الأسماك، ويرقات السرطانات والقواقع وغيرها، وتصبح هذه الكائنات بدورها غذاءً لكائنات مفترسة أكبر منها، وتتجلى في البحار وبوضوح مقولة «الكبير يأكل الصغير والصغير يأكل بيوض ويرقات الكبير» في نظام تغذوي محكم، فعلى سبيل المثال يرقة الهامور التي لا يزيد حجمها على النملة الصغيرة تبدأ تغذيتها على الطحالب المجهرية، وبعد أن تكبر قليلا تبدأ بالتغذية على الكائنات الحيوانية الصغيرة بما في ذلك يرقات الهامور نفسها أو يرقات أسماك أخرى.

وفي المقابل يتغذى على يرقة الهامور الصغيرة أنواع كثيرة من الكائنات كقنديل البحر (الدول) والأسماك مثل السردين (العوم) والزبيدي وغيرها، ولكن بعد أن تكبر صغار الهامور تقوم بافتراس أنواع الكائنات التي تغذت على بيوضها ويرقاتها، وهكذا بالنسبة إلى الأسماك والكائنات الحيوانية الأخرى، فالخيارات كثيرة والتحول من نوع من الغذاء إلى نوع آخر حسب الوفرة هو صفة التعايش في البحار حيث الكبير يأكل الصغير، وكذلك يأكل الصغير بيوض ويرقات الكبير، فالمفترس يأكل الفريسة في مرحلة معينة من حياتهما بعدها قد تفترس الفريسة المفترس في مرحلة أخرى من حياتهما، وهذا التشابك الغذائي المعقد يعدّ أحد العوامل التي تميز البيئة البحرية عن غيرها في إنتاجيتها العالية.

ولو تخيلنا هذا النمط من التغذية على اليابسة فسنرى صغار الثعالب والذئاب تلتهم صغار الأسود والنمور، وتلتهم الطيور الصغيرة صغار الطيور الكبيرة، وتأكل الحيوانات المفترسة بعضها بعضا، وبسبب غياب نمط التشابك الغذائي الكبير في البيئات اليابسة نرى أنها هشة مقارنة ببيئة البحار وتحتاج عناية كبيرة للحفاظ على كائناتها وإنتاجيتها.

كميات بيوض هائلة

تعدّ وفرة الطحالب المجهرية وشيوع الغذاء المنتشر في الماء وتنوعه العالي من أهم صفات الحياة في البحار، وتنعكس هذه الصفات بشكل عام على أنماط تكاثر الكائنات البحرية التي يقوم معظمها بإنتاج كميات هائلة من البيوض في الماء دون حماية أو رعاية، فعلى سبيل المثال تضع السمكة الواحدة مئات الآلاف من البيوض في فترة محددة التي تفقس بعد وقت قصير يتراوح بين يوم أو بضعة أيام لتنتج عدداً هائلا من يرقات الأسماك، ولكن في المقابل هنالك عامل افتراس قوي على هذه اليرقات من قبل كائنات عديدة بما فيها الأسماك، ويعمل عامل الافتراس على التوازن والحد من عدم التضخم في وفرة نوعا معينا من الكائنات على حساب كائنات أخرى.

فعلى سبيل المثال يشتمل غذاء سمكة النويبي المفترسة على نوع من الربيان، وبذلك تحد من تضخم وفرة هذا النوع من الربيان، وفي المقابل تتغذى سمكة الجرجور (القرش) على سمكة النويبي وتعمل على الحد من الزيادة في وفرتها، والكل يعمل من خلال التوازن البيئي بحيث لا تطغى وفرة نوع معين على الأنواع الأخرى، إضافة إلى ذلك، فإن خيارات الغذاء متعددة، فعلى سبيل المثال مكونات غذاء سمكة السبيطي تحتوي على عدة أنواع من الربيان إضافة إلى أنواع كثيرة من الأسماك الصغيرة، فالانخفاض في وفرة أو انقراض أحد مكونات غذاء سمكة السبيطي لا يؤدي إلى مجاعتها، حيث إن الخيارات كثيرة من الكائنات التي تتغذى عليها، وقليلا ما نرى هذا النوع من التوازن البيئي في البيئات اليابسة، فالبيئة الصحراوية في الكويت تفتقر الى التنوع العالي للكائنات، وبالتالي هي معرضة لعدم التوازن بسبب الرعي أو الصيد الجائر، الأمر الذي يؤدي إلى الإسراع في انقراض الكائنات البرية.

ضخامة في النمو

معظم الأسماك يتضاعف وزنها عشرات المرات طوال حياتها، وهذه صفة أخرى للحياة في البحار، إذ لا يوجد مثلها في البيئات اليابسة، فالكائنات الحيوانية على اليابسة بما فيها الحشرات، التي يضع بعضها كميات كثيرة من البيوض الصغيرة لا يتضاعف وزنها بشكل كبير، كما هي الحال في الأسماك، فمثلا لا نرى حشرات ضخمة يزيد وزنها على نصف كيلو غرام، في حين الأسماك يصل وزنها إلى أكثر من عشرات الكيلوغرامات، وبالتالي يكون وزنها قد تضاعف آلاف المرات، فيرقة سمكة الهامور على سبيل المثال، وزنها 10 ملغم عندما تفقس، ولكن بعد بضع سنوات يتضاعف وزنها مليون مرة وتصبح سمكة كبيرة وزنها 10 كيلو غرام.

الخلاصة

أهم ما يميز التغذية في البحار مقارنة بالتغذية على اليابسة هو أن معظم الكائنات الحيوانية في البحار تعتمد على الطحالب المجهرية كغذاء في المراحل الأولى من حياتها، وتتميز هذه الطحالب بتكاثرها السريع وانتشارها الواسع في الوسط المائي، ووفرتها العالية مما يجعلها في متناول الحيوانات البحرية. وبالرغم من ضخامة إنتاجية البحار بمختلف أنواع وأحجام الكائنات البحرية، إضافة الى ما تتميز به البيئة البحرية من صلابة في مواجهة الأنشطة الآدمية، فإن تطور وسائل الصيد والتلوث بأنواعه قد أدى إلى خلل في بعض مكونات هذه البيئة.

فقد أدى الصيد الجائر إلى تدنٍّ كبير في أعداد الكثير من أنواع الأسماك والكائنات البحرية في العالم، وعندنا في الخليج، على سبيل المثال، قد حصل تدنٍّ كبير في الأعداد المصيدة من سمك الزبيدي والصبور، كما أن العديد من البيئات البحرية حول العالم كالشعاب المرجانية تعاني التلوث والتدمير، ولا شك أن السبيل إلى الحفاظ على الحياة البحرية يكمن في الإدارة العلمية السليمة لنشاط صيد الأسماك والكائنات البحرية الأخرى، إضافة إلى ضرورة عمل الدراسات العلمية التي من شأنها فهم العلاقات الغذائية في مختلف البيئات البحرية بشكل أفضل، وعلى ضوء نتائج تلك الدراسات يتم وضع السبل الكفيلة بحماية البيئات البحرية.

* مدير دائرة الزراعة البحرية والثروة السمكية بمعهد الكويت للأبحات العلمية سابقا

back to top