من صيد الخاطر: «أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا»
«أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا»، مطلع قصيدة للشاعر سحيم بن وثيل، استشهد بها الحجاج بن يوسف الثقفي وهو المفوّه في خطبة عصماء، وذلك عند اعتلائه المنبر والياً على الكوفة.
وقد روى عبدالملك بن عمير قائلاً: بينما نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة، إذ قيل إن هذا الحجاج بن يوسف قد قدم أميراً على العراق فاشرأبت نحوه الرؤوس، فأتى وهو يتبهنس في مشيته، كان متلثماً وعليه عمامة حمراء من خزّ، ومنتكباً قوساً عربية.
يقول: فما زلت أرمقه ببصري حتى صعد المنبر، وكان في المسجد رجل يقال له: عمير البرجمي، فقال: لمحمد بن عمر التميمي، هل لك أن أحصبه؟ قال: لا حتى أسمع كلامه، فقال: قبح الله بني أمية، يستعملون علينا مثل هذا، ولقد ضُيّع العراق حين يكون مثل هذا أميراً عليه.
كان الحجاج ينظر يمنة ويسرة، حتى غص المسجد بأهله، فقام وقال: يا أهل العراق، إني لا أعرف قدر اجتماعكم إلا اجتمعتم، قال رجل: نعم، أصلحك الله، فسكت هنيهة لا يتكلم، فقالوا: ما يمنعه من الكلام إلا العي والحصر، فقام وقد أماط لثامه، وقال: يا أهل العراق، أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود، «أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني»، أما والله فإني لأحمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، وإني دعوت الله أن يبلوكم بي فاستجاب.
ثم قال: والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبدالملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مسكا، فوجهني إليكم، ورماكم بي وأمرني بإنصاف مظلومكم وإمضاء الحكم على ظالمكم.
يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق، ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وايم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أحلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت، إياي وهذه الزرافات.
ثم قال: يا أهل العراق، إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرتم بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها، فاستوسِقوا واعتَدِلوا، ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإبذار والأهذار، ولا مع ذلك النفار والفرار، إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم، وصغركم.
ثم قال: اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله عبدالملك أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فسكتوا، فقال: يا أهل الشقاق، يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون السلام؟ والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدباً سوى أدب ابن أبيه، ولتستقيمن لي أو لأجعلن لكل امرئ منكم في جسده وفي نفسه شغلاً، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام»، فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، فلما بلغ إلى موضع السلام صاحوا، وعلى أمير المؤمنين السلام، ورحمة الله وبركاته، فأنهاه ودخل قصر الإمارة.
فكلمة «ابن جلا» هنا قصد بها أنه الرجل المشهور، الذي تجلو له الأمور، وأنه الرجل الشريف، ذو المكانة الرفيعة، إلا أن هناك من قال إن «ابن جلا» هو اسم لرجل كان فاتكا صاحب صولات وجولات، وهو وصف ينطبق على الحجاج إن كان يقصده، أما «طلاّع الثنايا»، فقد قصد فيها أنه مطّلع على الأمور وأنه الآمر الناهي فيها، والثنايا أصلها ثنيات الطرق الجبلية، وأما قوله «متى أضع العمامة تعرفوني»، فهي كناية عن السيادة والشجاعة والإقدام، والمراد من وضع العمامة هنا هو نزعها عن الرأس في الحروب.
فماذا سيقول الحجاج لو رأى حال العراق الآن وقد دمرته الفتنة، وفرّقته الطائفية، وتخاطفته الحشود الإيرانية؟
ملحوظة: من التراث باختصار وبتصرف.