ما الذي يمنع عمّال إيران من توحيد صفوفهم؟

نشر في 11-11-2022
آخر تحديث 10-11-2022 | 21:17
العمال الإيرانيون نظموا التظاهرات واستفادوا من دورهم المؤثر في الاقتصاد
العمال الإيرانيون نظموا التظاهرات واستفادوا من دورهم المؤثر في الاقتصاد
بعد مرور أكثر من أربعة عقود على تأسيس الجمهورية الإسلامية، تتراجع أعداد المؤمنين بالثورة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويُعتبر فشل الدولة في تأمين الرعاية الاجتماعية للعمال واحداً من أسباب كثيرة وراء فقدان الثقة.
العمال الإيرانيون نظموا التظاهرات واستفادوا من دورهم المؤثر في الاقتصاد

طوال ستة أسابيع، اجتاحت احتجاجات كبرى إيران، فقد أدى مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عاماً) من مدينة سقز إلى تصفية الحسابات العالقة بين المجتمع الإيراني والدولة، وتؤكد المرأة الإيرانية بهذه الطريقة على حقوقها، ويطالب الشعب الإيراني ككل بتغيير سياسي جذري، فردّت الدولة الإيرانية على المحتجين عبر استعمال القوة حتى الآن، ما أدى إلى مقتل المئات، ولا شيء ينذر باستعداد السلطات لإطلاق عملية سياسية لتلبية مطالب الرأي العام، ومن المتوقع أن تستمر الاحتجاجات لفترة.

اضطلع العمال بدور أساسي في الاحتجاجات حتى الآن، فنظموا التظاهرات واستفادوا من دورهم المؤثر في الاقتصاد للتعبير عن تضامنهم مع المحتجين والضغط على السلطات، ونظّم المحامون والأطباء احتجاجات في طهران ومدن كبرى أخرى، وحذت حذوهم مجموعات متنوعة من العمال في قطاعَي الصناعة والنقل، كذلك، شارك المعلّمون في تنظيم منتديات نقاش وسط طلاب المدارس، حيث أصبحت مظاهر العصيان المدني من أبرز رموز الحركة الناشئة.

لكن رغم مساهمات مختلف المجموعات العمالية في هذه القضية ودعواتها إلى الإضراب، لم ينضم العمال إلى الاحتجاجات بأعداد كبيرة بعد، ولم يطلقوا إضرابات جماعية متواصلة لفرض ضغوط اقتصادية كبرى على السلطات الإيرانية.

على مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح هاشتاغ «الإضرابات العامة» من المواضيع الأكثر تداولاً منذ بداية الاحتجاجات، وأشاد مناصرو التظاهرات، منهم أشخاص من خارج إيران، بإضرابات الأسواق الشعبية بقيادة أصحاب المتاجر في عدد من المدن خلال الأسابيع الأولى من الحركة الاحتجاجية، ثم انتشرت تقارير عن إضرابات في قطاع النفط في كانجان، وبوشهر، وعبادان، وارتفع سقف التوقعات لاحقاً حين أعلنت الجمعيات التجارية في مجلس تنسيق المعلمين الإيرانيين إضراباً وطنياً من 23 إلى 24 أكتوبر.

الاقتصاد الإيراني يخوض مرحلة هشة من التعافي ومن المتوقع أن تمنع الاضطرابات المستمرة أي تحسّن في وضع الشعب

لكن لم تنجح تلك الإضرابات لأن أياً منها لم يكن واسعاً بما يكفي للتأثير على إنتاج السلع أو تقديم الخدمات، وخلال معظم الإضرابات في الأسواق الشعبية، اكتفى أصحاب المتاجر بتحصين نوافذهم بالألواح منعاً لتضرر أملاكهم، واقتصرت إضرابات عمّال النفط على المتعاقدين، وحصلت في معظمها خلال استراحة الغداء أو الفترات الفاصلة بين نوبات العمل، كذلك، اقتصر إضراب المعلّمين على بضعة صفوف في كردستان. بعبارة أخرى، لم يشهد البلد بعد إضراباً عاماً بالشكل الذي ينتظره الجميع،

ويظن الكثيرون أن الإضراب العام قد يُحدِث فرقاً حقيقياً في الحركة الاحتجاجية الجديدة في إيران بسبب الذكريات المرتبطة بثورة العام 1979 التي مهّدت لتأسيس الجمهورية الإسلامية، فبدءاً من عام 1978، زادت الضغوط على نظام الشاه بفضل الإضرابات التي نفّذها الموظفون الحكوميون والعمال في البلديات وقطاع النفط، لكنّ الظروف التي سمحت بحشد العمال على نطاق واسع في عام 1979 ليست متاحة اليوم.

أصبح وضع العمال الإيرانيين راهناً أكثر هشاشة مما كان عليه في عام 1979، وهذا ما يُصعّب عليهم التحرك، حيث تُوظّف وزارة النفط الإيرانية أقل من ثلث مجموع عمّال النفط في البلد بطريقة مباشرة، وتتكل على متعاقدين من القطاع الخاص لدعمهم. كذلك، يواجه المعلمون والأطباء في القطاع الخاص منافسة شرسة من عمّال يجنون أجوراً متدنية في قطاعات خاصة متنوعة. وبعد سنوات من الخصخصة، تحتفظ الدولة بأقل من مئة شركة صناعية كبرى، ويعمل معظم الموظفين في هذه الشركات بموجب عقود مؤقتة.

في غضون ذلك، يفتقر العمال الإيرانيون إلى التنظيم بسبب الإخفاقات الواسعة في نقابة العمال وتداعيات الخصخصة بعد عام 2000، فضلاً عن عمليات التسريح من العمل وانعدام الأمان الوظيفي.

ساهمت ثورة عام 1979 في تنظيم العمّال، لكن أصبحت معدلات الانضمام إلى النقابات سيئة اليوم، وبات العمال الإيرانيون يفتقرون إلى التنظيم، ومع مرور الوقت، زادت صعوبة تحويل النضالات السياسية إلى إضرابات في أماكن العمل بسبب غياب الهياكل النقابية، وفي أواخر التسعينيات مثلاً، تمكن العمال من حشد منظماتهم لدعم الزعيم الإصلاحي محمد خاتمي، وبعد مرور عشر سنوات، لم تعد التحركات العمالية القوية ممكنة بسبب تراجع مستوى تنظيم العمال في النقابات خلال الحركة الخضراء في عام 2009، وزاد الوضع سوءاً اليوم.

إلى جانب غياب التنظيم الرسمي، أصبحت العوامل الاقتصادية عائقاً يؤثر على التحركات السياسية التي يقودها العمال، فبين العامين 2010 و2020، تراجع متوسط الإنفاق السنوي للأُسَر بقيادة الطبقة العاملة من 4600$ إلى 3900$، أي ما يساوي تراجعاً بنسبة 15، وفق بيانات «مركز إيران الإحصائي»، ونظراً إلى تراجع المدخرات، بالكاد يعيل معظم العمال أنفسهم حتى نهاية الشهر، فهم لا يستطيعون التخلي عن أجورهم ويخشون التعرّض للطرد في اقتصادٍ ترتفع فيه نسبة البطالة.

بين عامي 2010 و2020 تراجع متوسط الإنفاق السنوي للأُسَر بقيادة الطبقة العاملة من 4600 دولار إلى 3900

تأجّل إضراب للعاملين في قطاع النفط في 29 أكتوبر مثلاً لأن أماكن العمل تخضع للتدقيق، لكن تدرك السلطات أيضاً أن وضع العمال الإيرانيين هش، إذ يفضّل جزء كبير منهم الامتناع عن الاحتجاج إذا أصبحت أجورهم ووظائفهم على المحك.



في مقابلة جديدة نُشِرت باللغة الفارسية، قال جاك غولدستون، واضع نظريات متخصص بالثورات الاجتماعية، إن «الإضرابات المتواصلة في منشآت النفط ووسط العمال في قطاعات مهمة وأساسية أخرى» تُعتبر شرطاً أساسياً لنجاح الاحتجاجات الراهنة في إيران، لكنّ العوامل التنظيمية والاقتصادية تُصعّب إطلاق هذا النوع من الإضرابات الكبرى محلياً، لكن ذلك لا يعني أن العمال لا يستطيعون المشاركة في الحركة الاحتجاجية.

كان دور الإضرابات مؤثراً في ثورة عام 1979 لأنها شكّلت تكتيكاً فاعلاً وقابلاً للاستمرار، لكن لا تُعتبر الإضرابات الشكل الوحيد من التحركات السياسية التي يستطيع العمال إطلاقها، وأوضحت الأسابيع القليلة الأولى من الاحتجاجات أن العمال يستطيعون إثبات تضامنهم ورفع مطالبهم بطرقٍ متنوعة، ويجب ألا يفرض مراقبو الاحتجاجات عن بُعد أفكارهم الخاصة على العمال حول طبيعة التحركات الفاعلة، لا سيما على المدى القصير.

على صعيد آخر، يفتقر العمال الإيرانيون في الوقت الراهن إلى النقابات والهياكل التي تسمح لهم بتنظيم صفوفهم سريعاً، لكنّ الضرورات السياسية التي تدفعهم إلى المشاركة في الاحتجاجات قد تطلق أنواعاً جديدة من التنظيم، ففي المرحلة التي سبقت ثورة عام 1979، لم تصبح الإضرابات الوطنية من خصائص الحركة الاحتجاجية إلا بعد مرور أشهر من التظاهرات الشعبية. إذا صمدت الحركة الاحتجاجية رغم قمع الدولة، فسيحصل الناشطون العماليون على الوقت الكافي لبناء شبكات جديدة، ويستفيدون من تضامن استثنائي بين مختلف الفئات الاجتماعية الإيرانية ووسط الشتات في الخارج.

أخيراً، قد تتغير الظروف الاقتصادية في حياة العمّال أيضاً، فلا يزال الاقتصاد الإيراني يخوض مرحلة هشة من التعافي، ومن المتوقع أن تمنع الاضطرابات المستمرة وتراجع احتمال رفع العقوبات أي تحسّن بارز في وضع الأُسَر الإيرانية، لكن تستطيع أطراف معينة من خارج إيران أن تقدّم الدعم الاقتصادي إلى العمال الإيرانيين، وتقضي أفضل الاقتراحات في هذا المجال بإنشاء صندوق لتمويل الإضرابات، لكن قد ينتج أي صندوق مماثل حوافز مالية شائبة إذا اكتفى بمساعدة العمال الذين يُعرّضون أنفسهم للمخاطر، ومن المنطقي أن تتحرك السلطات الإيرانية بعدائية أيضاً لمنع أي تحويلات مالية على صلة بصندوق تمويل الإضرابات.

تقضي مقاربة أفضل بتسهيل طريقة إرسال الأموال من الشتات الإيراني إلى عائلاتهم وأصدقائهم في إيران على شكل تحويلات مالية، فهذه العملية قد تمنح عدداً كبيراً من العمال الوسيلة اللازمة للمشاركة في الإضرابات عبر مساعدتهم على تجاوز مخاوفهم من خسارة مصدر دخلهم، وفي ما يخص العمال الآخرين، قد تسمح التحويلات المالية للناس بإعالة أنفسهم في اقتصادٍ يشهد مستويات قياسية من التضخم بسبب العقوبات الغربية.

من الناحية الإيجابية، تكشف الأبحاث أن التحويلات المالية غير المشروطة تنعكس إيجاباً على المشاركة في التحركات السياسية، فقد تسمح التحويلات المتزايدة إذاً باسترجاع القدرة على تعبئة العمال الإيرانيين، لكن يتوقف على كل فرد أن يقرر الوقت المناسب للانضمام إلى الإضرابات نظراً إلى المخاطر المطروحة.

أعلن آية الله السابق، روح الله خميني، في خطابٍ ألقاه أمام العمال الإيرانيين بمناسبة عيد العمال يوماً: «يقضي أحد أهداف الجمهورية الإسلامية بوضع صناعة البلد كلها في يد المؤمنين لأن الثورة مُلْك لهم».

بعد مرور أكثر من أربعة عقود على تأسيس الجمهورية الإسلامية، تتراجع أعداد المؤمنين بالثورة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويُعتبر فشل الدولة في تأمين الرعاية الاجتماعية للعمال واحداً من أسباب كثيرة وراء فقدان الثقة، فاليوم لا يحصل العمال الإيرانيون على حاجاتهم ويفتقرون إلى القوة والتنظيم، ولهذا السبب تحديداً، قد يصعب إطلاق ثورة جديدة في إيران.

*إسفنديار باتمانجليج

back to top