التوازن العالمي بين «بريكس» ومجموعة العشرين
في عام 2009 التقى رؤساء دول البرازيل وروسيا والهند والصين وأعلنوا رسمياً إنشاء تحالف للدول ذات الاقتصادات النامية، عرف- فيما بعد- بمجموعة «بريك» وفق الاسم الذي سبق أن استحدثه الاقتصادي البريطاني جيم أونيل في عام 2001 بمعرض إشارته إلى تنامي الوزن الاقتصادي لهذه الدول التي جمع بكلمة BRIC الأحرف الأولى من أسمائها اللاتينية.
تتمثّل الأهداف الرئيسة للمجموعة- التي أصبحت تعرف باسم «بريكس» بعد انضمام جنوب إفريقيا إليها في عام 2011- في تعزيز التجارة والاستثمار بين الدول الأعضاء، وتنسيق السياسات الاقتصادية بينها، وتمثيل مصالحها في المحافل الدولية... ولم يكن غريباً أن تفرض المجموعة نفسها على الساحة الدولية كون مساحة دولها المؤسسة مجتمعة تبلغ أكثر من ربع مساحة الكرة الأرضية، ويسكنها أكثر من 40٪ من سكان العالم يمثّلون نحو 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وما يفوق الـ15٪ من التجارة العالمية.
ومن المتوقع في المستقبل القريب أن يتضخم دور المجموعة وتتضاعف الأرقام المرتبطة بها، كانعكاس طبيعي لإعلان الرئيس الجنوب إفريقي في 24/ 8/ 2023 من قمة الـ«بريكس» التي انعقدت في بلاده عن دعوة ست دول جديدة للانضمام الى التحالف اعتباراً من مطلع عام 2024، وهي: السعودية، الإمارات، مصر، الأرجنتين، إثيوبيا، إيران، ليصبح اسم المجموعة «بريكس بلاس». ورغم الآراء التي تحاول حصر تأثيرات المجموعة بالجانب الاقتصادي، لا شك أن للـ«بريكس»، بنشأته وواقعه ومستقبله، أبعاداً وتأثيرات مهمة على السياسة الدولية، إذ يشكّل هذا التحالف في حقيقته تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة وللنفوذ الغربي على الساحة الدولية، الأمر الذي يجلّيه إلحاح الصين ونجاحها في إقناع باقي الأعضاء بضمّ الدول الست الى المجموعة رغم ما شهدته قمة جوهانسبورغ من نقاشات حادّة في هذا الشأن.
**
وحول دور ومستقبل المجموعة تساءل نورييل روبيني في عنوان مقال نشره عام 2009 على الموقع الإلكتروني لبروجيكت سنديكيت إذا ما كان الـ«بريك» سيشكّل حجراً آخراً في الجدار العالمي؟ والحجر هنا قد يشكّل إضافة مفيدة لتمتين سور الاقتصاد العالمي، وقد يكون بالعكس عثرة بطريق الأحادية القطبية التي تقود العالم منذ انتهاء الحرب الباردة.
ورغم ما قد يبدو واضحاً من تراجع للحضور الأميركي المباشر في العالم، تبقى الإجابة عن تساؤل الكاتب روبيني غير محسومة، ذلك لأن العلاقة الثنائية بين أعضاء «البريكس» والولايات المتحدة الأميركية معقدة، تقودها اعتبارات المصالح المتبادلة، وتهيمن عليها سطوة العملة الخضراء، وسياسات الإقراض التي تتحكم فيها اللوبيات المصرفية الكبرى والمؤسسات الدولية التي ما زالت على ما يبدو أنها تعمل بتوجهات غير متناقضة مع توجّهات العمّ سام.
وفي السياق، يقود التفكير في أبعاد وتأثيرات تحالف «بريكس» في السياسة الدولية والاقتصاد العالمي الى التساؤل حول مدى تعارضه أو اتفاقه مع دور مجموعة العشرين التي تنحى باتجاه السياسات الغربية، والتي بالمقابل تضمّ في كنفها جميع الدول المؤسسة لتحالف الـ«بريكس»؟!
ومما يعزّز هذا التساؤل، بروز مؤشرات متناقضة من القمة الأخيرة لمجموعة العشرين التي انعقدت في سبتمبر من العام الجاري في العاصمة الهندية! إذ تتمثّل الإشارات السلبية- التي قد تبدو منطلقة من نيّة مبيّتة لإضعاف دور مجموعة العشرين لصالح «البريكس»- بعدم حضور الرئيس الصيني للقمة كنتيجة مباشرة لحساسية العلاقة بين التنين الأصفر وجارته شبه القارة الهندية «بهارات»، الأمر الذي ترافق مع عدم حضور الرئيس الروسي على خلفية الحرب الأوكرانية. أما الإشارات المعاكسة الأخرى، فهي قد توحي بصلابة مجموعة العشرين وتنامي دورها، ويتمثّل ذلك بالإعلان عن منح العضوية الدائمة للاتحاد الإفريقي في المجموعة، وبإعلان ولي العهد السعودي في كلمته التي ألقاها في القمة عن توقيع مذكرة تفاهم بشأن ممر اقتصادي يربط الهند بأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، مما يشكّل بلا ريب بديلاً عن «طريق الحرير» الحلم الكبير للمارد الصيني.
ومع هذه الوقائع المتناقضة التي تحكمها لعبة المصالح الوطنية على حساب الرؤى والاتجاهات الأممية، يبدو أن العالم يعيش مخاضاً لإعادة تشكيل توازناته، كما يبدو أن دوله المختلفة تبحث عن تموضع لها على خريطة التوازن المستجد.
وهذا ما يقود الى التأكيد على أن الجهود الصينية الساعية الى تعزيز دور وحضور مجموعة «بريكس» بهدف إعادة التوازن الى السياسة الدولية، لن تستطيع بسهولة هز أواصر مجموعة العشرين التي تضمّ ممثلي ثلثي سكان العالم الموزعين على نصف مساحة الكرة الأرضية، وتمثل اقتصادات دولهم نحو 90% من إجمالي الناتج العالمي، و80% من التجارة العالمية.
هذا بالإضافة الى وجود رأي غالب- وربما إجماع- لدى أعضاء مجموعة «بريكس» بأن من مصالحهم الآنية والمستقبلية البقاء في كنف مجموعة العشرين التي تشكل منتدى دولياً يهدف بشكل رئيس الى تنسيق السياسات الاقتصادية بين الدول الصناعية والنامية، وتعتبر منصة مهمة للتعاون الدولي وصياغة القرارات في قضايا تهمّ البشرية جمعاء كالتغير المناخي، والأمن الغذائي، والتنمية المستدامة.
**
لا شك أن الحرب الروسية-الأوكرانية، وما يحدث في الدول الإفريقية، وإعادة الخطوط الساخنة للعلاقات الإيرانية-السعودية، ناهيك عن جهود مكافحة التضخم العالمي وحساسية ملف الأمن الغذائي، كلها ملفات مؤثرة في مستقبل شعوب الأرض كافة، وهي ليست بعيدة عن محور اهتمام التكتلات الكبرى ذات البعد العالمي. وفي السياق، يبقى الأمل أن تشكّل هذه المنتديات السياسية والاقتصادية مراكز ثقل متوازنة لخدمة التنمية المستدامة والرخاء العالمي، لا أن تتحول مجدداً الى منصات حروب باردة أو ساخنة تطيح بكل القيم الإنسانية والأخلاقية وتشكّل مساساً مباشراً بحقوق الإنسان ومصلحة البشرية جمعاء.
* كاتب ومستشار قانوني.