الهدر كنمط لحياة باهتة *
بعينين ناعستين من قلة النوم أو نقصانه تبحث عما تحب في هذه المدينة وقبلها تلك، وقبلها حبك الأول في المدن عندما كان للمدن رائحة غير غمامتها ومخلفات حيواناتها الأليفة، ولها لون أيضاً ربما هو شمسها التي كانت قبل أن تغزو السموات الزرق أغبرة وأتربة التلوث وتغير المناخ.
لا تزال تبذل جهدا لفتح عينيك وأنت تبحث عنها، عن تلك التي أحببتها وبقيت رغم تعرجات الزمن وأحداثه المتلاحقة هي الأكثر حضورا في الذاكرة الباهتة!!!
ليست المرة الأولى وأنت لم تبعد عنها طويلا، فقد كنت هنا قبل أشهر فقط، لكنها تتغير وتتحول، وتمسح تدريجيا تفاصيل كانت الأجمل، وتتحول إلى مدينة أخرى بلا روح، عندما حوروا التاريخ أو زوروه أو حتى مسحوه فقط بضغطة «دليت» أو محو.
هم يتفننون في محو كل ما تبقى، يقول صديقي العزيز: «هم والزمن والطبيعة علينا»، ويبتسم مكملا «ما خلاص قربنا نروح وده أحسن مش عايز أبقى أكثر»، وقبل أن يكمل يعلو صوت جميع الحضور «بعيد الشر بعيد الشر»، في حين هم وهن جميعا مثله يتمسكن ببعض ما تبقى حتى لا يبدو «المسح» المستمر وكأنه مؤامرة متكاملة المعالم على المساحة المتبقية لحياة تشبه الفرح الذي كان.
صممت رغم عدم توقف السائق عن الهدر في الكلام، نعم هذه لحظة الهدر في الطعام والشراب والملبس والمكسي وحتى الكلام، هدر في هدر، ضاع ذاك الدرس القديم الذي كررته علينا مدرسة العربي إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لم يعد الكلام من فضة ولا ذهب، بل أصبح الكلام ساكتاً في صخبه وباهتاً في كثرته، لكنه، أي سائق تاكسي المطار، لم يعرف هذا الدرس، ولم يسمع به، بل هو من مدرسة أكثر من الحديث، فقد يمنحك الراكب مزيداً من الجنيهات!!!
عودة لتضاريس المدينة التي بدأت تتوسع ربما بفعل عدد السكان المتزايد في كل مكان رغم محاولاتهم تقليل السكان، فقد انتصرت إرادة البشر على نظريات المؤامرة، وبقيت هواية الإكثار من الأطفال هي الأكثر انتشاراً، حتى مع كم السخف والابتذال على وسائل التواصل، وخصوصاً «تيك توك».
أين تلك العمارة في قلب العاصمة التي كانت رمزاً لمرحلة معمارية خاصة، وأين المقهى ذاك المزدحم و«فين راح مجرى النهر»؟؟ أسئلة محيرة حتى اختلطت تضاريس المدينة أو ربما مسخها الجديد الذي يحمل تسميات رنانة ومغرية وربما عمرانية، كما يقول عنها المعماري الشاب الذي يسعى إلى ألا تتعود عيوننا على بشاعة عمرانية كهذه حتى ندمنها ونحول مدننا إلى ما يشبه تلك التي أصبحت مرجعاً للمدن الحديثة تتسابق العواصم والحكومات على تقليدها لتصبح مدننا كما كثير من نسائنا ورجالنا أيضا متشابهات بفعل خربشة جراح تجميل!!
هي جراحة تشويه لا تجميل حتما، ليتهم يمنحونها ما يشاؤون من الأسماء إلا أن تحمل وصف تجميل الذي هو حسب المعاجم يعني: جمّل الشيء، أي حسّنه في الشكل أو الخلق أو زين الشيء، فما الجميل فيما يحدث لكثير من تلك التي كانت تسمى مدن الورد والماء والجمال دون أسوار تحجب الرؤية إلا لمن استطاع لها سبيلا بماله أو نفوذه أو كليهما.
جاهدون هم في ردم كل صور الماضي أو ربما طمسها تحت الطين والتراب أو تشويهها حتى يهرب عشاقها القدامى لتبقى بقايا صورها في زوايا الذاكرة، أما ما تبقى فنحن كشعوب كفيلون بهدمه أيضا ربما لكثير من الجهل حتى بين حملة الشهادات والفقر المادي والحسي والجمالي والطمع الذي تحول الى نمط سلوك وحياة وكثير من اللامبالاة وترديد مقولة «هي وقفت عليا»، كلهم أو كلنا مدانون بدفن الجمال أو ما تبقى منه منذ أن سكتنا على أن تتمدد الواجهات العشوائية لتغطي نصب وتصاميم الجمال المعماري والنصب والتماثيل لفنانين عرب من بغداد مروراً بدمشق وحتى القاهرة.
نحن مدانون منذ أن وافقنا أن تطغى بلد اللا حضارة وتغرز لا ثقافتها ولا حضارتها مع جيوشها ودباباتها في عمق مدننا التاريخية وبيوتنا العتيقة المعجونة بكثير من الذكريات والصور واللحظات الخاصة، نحن مدانون لأننا تصورنا أننا كلنا نيويورك بناطحات سحابها، وأن تلك المباني الزجاجية هي الأنسب لطقس لا يعرف سوى حرارة الشمس ودفئها في الشتاء.. نحن مدانون عندما تصورنا أن بيوت الطين التي بناها كثيرون من أحبتنا بعرقهم وربما بعض دمهم تمثل شيئا من «التخلف»، فعلينا أن نمحوها عن سطح الذاكرة وباطنها!! نحن مدانون عندما تصورنا أن حقوق الإنسان هي في الحريات السياسية وحرية التعبير فقط، ولم نشملها بالحقوق الثقافية ومنها حقنا في المحافظة على مدننا وشوراعنا ومبانينا وحضارتنا وغنائنا وموسيقانا وملابسنا وأكلاتنا التي زحفت إسرائيل لتسرق بعضها أو كلها و... و....* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.