من يموّل الصحافة الاستقصائية؟
كتب أحد الزملاء معلقاً على مقال «الصحافة الاستقصائية» الأسبوع الماضي قائلاً: «شو متصوّر نفسك في أميركا أو بريطانيا، يا أخي نحن في منطقة عربية لا تسمح للمنقّبين عن الفساد بالبقاء أحياء»!! لم أستغرب ردة الفعل هذه لأننا نعيش في بيئة طاردة لهذا النوع من الأعمال الصحافية الاستقصائية وغيرها، حتى كتابة المقال والرأي المخالف والحريات يدخل في قائمة المحظورات.
المخاطر التي تعرض لها الصحافيون الاستقصائيون ودفعوا حياتهم ثمناً لها لم تكن في العالم العربي فقط، بل في دول ديموقراطية حرية الرأي فيها مقدسة، ويمكن القول إن الأنظمة الاستبدادية تتساوى مع غيرها من الديموقراطيات باللجوء إلى الاغتيالات للتخلص من «كاشفي الفساد» وبصورة صادمة.
وجدت تفاعلاً جيداً تجاه الصحافة الاستقصائية، والأكثر حذراً كانوا من المقيمين في لندن وعواصم غربية ديموقراطية، ينبهون فيه أن غالبية من يمول هذا النوع من التحقيقات الاستقصائية يأتي من منظمات المجتمع المدني الذي يرتبط بأجندات سياسية، وأقرب مثال ما يحدث في لبنان، وما جرى في أميركا وبريطانيا لعدد من التحقيقات كشف أن التمويل تم من قبل أجهزة استخبارات.
موضوع التمويل ودخول أجهزة استخبارات على الخط ليس وقفاً على الصحافة الاستقصائية ولا هو مبرر للخوف أو الابتعاد عنه، علاقة الصحافة بالأجهزة عمره مئات السنين، وفي عالمنا العربي قصص مثيرة عن هذا الاختراق وتوظيف صحافيين لصالح جهات سياسية معنية.
قد يكون هذا النمط من العمل الاستقصائي في الصحافة موجعاً ومؤلماً لمن يطوله التحقيق، لكنه في النهاية يتطلب الجرأة والصبر الدؤوب والمتابعة، وهذا ما لمسته من مداخلة أحد الزملاء البحرينيين وهو عضو في شبكة «أريج» قام قبل فترة قصيرة بعمل جلسة حوارية مع إحدى الصحف في المنامة للحديث عن أهمية الانضمام إلى مجتمع واسع من المؤسسات العالمية، مستشهداً بالآية الكريمة «رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»، فعندما يلتقي الاستقصائيون من أقاصي الأرض يشعرون بالقوة، مشيراً إلى مؤتمر دولي قادم سيعقد قريباً في السويد، إنما بحضور عربي «خجول».
ما أشعرني بالمسؤولية المهنية أن هذا الزميل البحريني يعول كثيراً على الصحافة الكويتية متسائلاً، ما الذي يمنع هذه الصحافة لما لها من متسع معقول في الحريات من ممارسة هذه الاستقصائية، ونصح من يرغب أو يتعلم ويستفيد الدخول إلى موقع شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» (أريج) وموقعها في عمان بالأردن، وتنزيل الدروس والتدريبات المجانية والتقدم بطلب إجراء تحقيق على العنوان التالي arij.net.
وكي يدلل على دور شبكة «أريج» والدعم الذي تقدمه أشار إلى ما أنتجه الصحافي المصري المقيم في أوروبا ويدعى محمود السبكي، حول المهاجرين العرب إلى أوروبا، بفيلم رائع كي يرى المشاهد ما هو الجهد المبذول فيه، وعدد المصادر ونوعيتها، والسفر من أوروبا إلى تونس، وإرسال طاقم تصوير مع الصحافي، والمكالمات الدولية التي أجريت، وكلها جهود وتكاليف من الصعب على صحيفة يومية دفع تكاليفها، ولهذا السبب لا بد من جهة ممولة لهذه التحقيقات، شرط أن تكون محايدة ومعروفة وواضحة.
المشكلة اليوم أن التفكير في موضوع مستقبل الإعلام والصحافة المكتوبة يذهب باتجاه كيف نجعلها باقية على قيد الحياة لا انتزاع المزيد من الحريات، والاستثمار في غالبيته يقتصر على الإعلام الإلكتروني بصوره المختلفة كما يكتب الزميل أسامة الرنتيسي، وهذا الجدال لن ينتهي أو يتوقف، لأن السباق على أشده في الاستحواذ على عقل القارئ ومشاهدته، من يكسب أكثر من الآخر؟ ومن يؤثر أكثر من الآخر؟ ومن ينتشر أكثر من الآخر؟
سواء أطلقوا عليها اسم السلطة الرابعة كصحافة تقليدية أم سلطة خامسة على «السوشيال ميديا» يبقى التحدي قائماً والمنافسة حامية بمن يقدم محتوى أفضل ويسعى لإفادة المجتمع لا الإثارة الرخيصة وغير الأخلاقية.