اعتقال معلم!

نشر في 22-09-2023
آخر تحديث 21-09-2023 | 18:49
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

يقول بطل هذه القصة: كنت معلما للتربية الفنية، أعيش مع الجمال وأتذوقه، وأتفاعل معه وأُدرّسه، وكنت فخورا بعملي محبا له، سعيدا في ذهابي وإيابي، وكانت علاقتي طيبة مع طلابي ومع المعلمين، ولا أتذمر في عملي، رغم كثرة المسؤولية والجهد والتعب، وكنت أفتخر بهذه الوظيفة الراقية، وأعتز بها إلى أبعد الحدود، إلى درجة أنني كنت أترك انطباعا جميلا لكل من يتحدث معي عن التربية والتعليم، وكيف لا، وهو مصنع الأجيال... وبعد مرور عام أُجبرت إجبارا للعودة إلى عملي القديم بسبب القرارات «التخبطية» والقوانين التعسفية من ديوان الخدمة المدنية.

رجعت مجبرا إلى ذلك العمل التافه الذي كنت أعمل فيه قبل التربية، وأنا كاره له ولطبيعته، وكأنهم كانوا ينتزعونني انتزاعا من تلكم الحديقة الجميلة التي زُرع حبي فيها، لأرجع إلى تلك الوظيفة الروتينية المكتبية البليدة التي لا علاقة لها بتخصصي ولا بطموحي، وعندما رجعت موظفا إلى مقر عملي البائس.. شعرت ولأول وهلة من دخولي بأني رجعت إلى المعتقل الوظيفي نفسه الذي هربت منه بعد عناء شديد!

أخذوني بعدها لجهاز البصمة حتى يتعرف عليَّ مجددا، ويسجل حضوري يوميا، ويتعامل معي بدون أي إحساس أو إنسانية، فالتأخير عنده لا يغتفر، والفضل منه لا يُنْتظَر، والحديث معه محال.. وأما قسم الشؤون القانونية فكان بانتظار أي زلة منا ليحقق مع الموظف المسكين! كم حققوا معنا من أجل دقيقة! (الفاضي يعمل قاضي)، ويبدو أن القانون لا يطبق إلا على صغار الموظفين، وأما المديرون ومساعدوهم فمعفون من البصمة، المدير يأتي متى ما شاء ويغيب متى ما شاء!

دخلت إدارتي القديمة بوجه مبتسم وقلب منهزم، وبخطوات ثقيلة، ثم رأيت المنظر الذي لم أنتبه إليه في السابق! رأيت أغلب الموظفين جالسين في مكاتبهم ملتزمين مقاعدهم، وكلٌ يسلّي نفسه بما يحلو له حتى ينقضي الوقت، وكأننا ركاب في رحلة باص ننتظر المحطة القادمة!

أغلب الأعمال كانت شكلية لا وزن لها، أعمال لمن يريد راتبا بأقل جهد ممكن، يسمونها (الأمان الوظيفي)، أعمال استغنت عنها الدول المتقدمة واستبدلتها بالتطبيقات والبرامج الحديثة.

كان صميم عمل الإدارة فنيا، وكان تفويض موظف أو اثنين يكفي للقيام بالأعمال الإدارية للتنسيق وتنظيم المواعيد، وأحيانا كان الاتصال الهاتفي أو البريد الإلكتروني يفي بالغرض، وأما بقية الموظفين فوظيفتهم هي إشغال الفراش (جيب شاي، جيب قهوة).

لست مبالغا، فعدد الموظفين أكبر من احتياج الإدارة، وأحيانا لا يوجد لدينا عمل نهائيا، ومع ذلك كان مطلوب منا كموظفين أن نوجد في مكاتبنا ونمثل أننا نعمل! إذا مرّ المدير، ولا أدري حقيقة ما هو دوري، فهل أنا موظف في دائرة حكومية، أم كومبارس في مسرحية!

back to top