الكويت... من اقتصاد الأرقام إلى الاقتصاد الرقمي
غني عن القول إن الاقتصاد الكويتي اقتصاد ريعي يعتمد فيه تمويل الميزانية العامة بشكل رئيس على الأرقام المتأتية من بيع النفط الذي تكوّن إيراداته القسم الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي ومن حجم الصادرات الكويتية.
ومن المعروف والمكرر كذلك أن الاعتماد على النفط كمصدر شبه وحيد للدخل يمثّل تحدياً حقيقياً لاستدامة النمو والتنويع الاقتصادي كونه بلا ريب عُرضة للنضوب ورهينة لتقلبات الأسعار والتذبذب في أسوق الطاقة العالمية، ومن هنا، تبلورت الأهمية لسرعة الانطلاق في الكويت برحلة التحول نحو الرقمنة التي تشكّل ركيزة الاقتصاد الرقمي الذي أصبح في دول العالم المتقد اقتصاداً مواكباً وداعماً للاقتصاد التقليدي الذي تتقلب أرقامه نتيجة كثير من الظروف الأمنية والسياسية والمناخية.
كي لا يبقى الحديث في مجال التخطيط النظري والحلم الورقي لا بد للكويت أن تضع الاقتصاد الرقمي في سلم أولوياتها
يرتبط «الاقتصاد الرقمي» ارتباطاً وثيقاً بالخدمات والصناعات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، بما يشمل حركة الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي والتعامل الاقتصادي والتبادل التجاري المرتبط بها، وبما يتضمنه من تناقل الكم الهائل من البيانات والعمليات والأفكار والابتكارات بين مليارات المستخدمين الذين يشكلون في حقيقتهم هدفاً تسويقياً واستهلاكياً للشركات ولاسيما العملاقة منها.
بمعنى آخر، يرتكز هذا النوع من الاقتصاد بشكل رئيس على واقع انتشار البيانات والمعلومات ومهارات تحويلها الى «سلع رقمية» و«منتجات ذكية» قابلة للاستهلاك والتداول، وذلك من خلال رأس مال بشري مؤهل ومميز يستطيع- بعلم وخبرة- التعامل مع الهواتف الذكية وتطبيقاتها، والمواقع الشبكية وتفاعلاتها، والمنصات التشاركية ومحتواها، وبادراك تام لخبايا ومداخل العالم الافتراضي، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وأمن المعلومات، والجرائم المعلوماتية، والملكية الفكرية، والتسويق الإلكتروني... إلخ.
لقد أدخل الاقتصاد الرقمي مصطلحات ومفاهيم جديدة الى التداول، فصار بالإمكان إنشاء شركات افتراضية، ولم يعد غريباً أن نمارس الأعمال من خلف الشاشة في منازلنا، كما صار يسيراً عقد الصفقات من خلال البريد الإلكتروني، وأصبح التمويل متاحاً من خلال البنوك الرقمية، وأضحى بالإمكان الاجتماع والتشاور من خلال تقنيات الاتصال الحديثة، وتحولت الأسواق التقليدية الى أسواق «عنكبوتية» تتخطى فيها حركية التعامل والتداول كل الحدود الجغرافية والسياسية.
من تجارب النجاح التي تدللّ على أهمية هذا النوع من الاقتصاد حركة التجارة الناشطة وصفقات البيع والشراء التي تشهدها أو يكون موضوعها التطبيقات التجارية والخدمية المنتشرة في الكويت والعالم، ناهيك عمّا يشهده السوق العالمي من طلب متزايد على أدوات الاتصال الحديثة كالهواتف المحمولة والحواسيب وغيرها مما يدخل في صناعات التكنولوجيا المتطورة التي ارتدت إيجابا على تنشيط غيرها من الصناعات الأخرى والخدمات المرتبطة والبحوث ذات الصلة.
***
في السياق، حددت الأمم المتحدة سبعة عشر هدفاً للتنمية المستدامة ركّزت على أهمية تحقيقها بحلول عام 2030، وقد تناول الهدف الثامن منها «النمو الاقتصادي المستدام والشامل» الذي من شأنه تحريك مسار التقدم وخلق وظائف لائقة للجميع من شأنها المساهمة في تحسين مستويات المعيشة، ولتحقيق هذا الهدف تمت الإشارة الى الارتقاء بمستوى التكنولوجيا والابتكار والتركيز على القطاعات المتسمة بالقيمة المضافة العالية.
وهذا ما يرتبط أيضاً بتحقق الهدف التاسع الذي يحث على إقامة البنى التحتية القادرة على الصمود والعابرة للحدود، وتحفيز التصنيع الشامل والمستدام، وإطلاق العنان للقوى الاقتصادية الديناميكية والتنافسية التي تولد فرص العمل والدخل مع تأدية دورٍ رئيس في إدخال وتعزيز التقنيات الجديدة، وتسهيل التجارة الدولية، وتمكين الاستخدام الفعال للموارد، حيث إن الابتكار والتقدم التكنولوجي وتعزيز البحث العلمي من العوامل الأساسية اللازمة لإيجاد حلول دائمة للتحديات الاقتصادية والبيئية، مثل زيادة الموارد وكفاءة الطاقة، وبخاصة أن أكثر من نصف سكان العالم أصبحوا الآن متصلين بالإنترنت، ويعيش جميع سكان العالم تقريباً في مناطق تغطيها شبكات الهاتف المحمول.
انطلاقاً من هذا التوجه الأممي، تضمنت رؤية الكويت 2035 ما يمكن أن نسميه الخطوط العريضة للخريطة الرقمية التي من خلالها يتم دفع الاقتصاد الكويتي نحو عصر المعرفة والرقمنة والابتكار بما يواكب التطورات العالمية، ابتداء بتحويل الخدمات الحكومية الى الكترونية، مروراً بتبني العديد من التقنيات الحديثة واعتماد نماذج أعمال حديثة تسهم في دفع عجلات التقدم في مختلف مجالات التجارة الرقمية.
وفي هذا المنحى تضمن القسم الخاص بسياسات خطة التنمية السنوية لعام 2023-2024 بنداً خاصاً بـ«تطوير البنية التحتية للمعلومات والاتصالات للتحول إلى الاقتصاد الرقمي المعرفي»، حيث ترجم الأمر بتبني العديد من الجهات الحكومية بعض المشاريع المتصلة بالتحول الرقمي، وفي مقدمتها الجهاز المركزي لتكنولوجيا المعلومات الذي من المفترض ان يمضي في تنفيذ مشروع «الإطار الوطني للمهارات الرقمية» الذي يهدف الى تصميم واعتماد اطار وطني للمهارات الرقمية يكون مرجعاً لمعرفة فجوة المهارات الحالية ولوضع خطة لتطوير وتوفير المهارات المطلوبة بما يساهم في تحقيق أهداف رؤية كويت جديدة.
وكي لا يبقى الحديث في مجال التخطيط النظري والحلم الورقي، لا بد للكويت أن تسارع الى وضع الاقتصاد الرقمي في سلم أولوياتها، وذلك من خلال تحقيق عدة خطوات رئيسة نذكر من بينها:
• تطوير قطاع التكنولوجيا والاتصالات، بتشجيع وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتحسين جودة الخدمات ذات الصلة.
• دعم الابتكار والريادة الرقمية، حيث تبرز الأهمية لتوفير بيئة مشجعة وداعمة للشركات الناشئة وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، إضافة الى دعم إنشاء مراكز الابتكار والتكنولوجيا وتسهيل إجراءات التأسيس وتقديم الدعم المالي والتدريب والاستشارات المرتبطة بمفردات النمو المستدام.
• تطوير المهارات وتأهيل القوى العاملة، الوطنية والأجنبية، إذ يعد ذلك مطلباً رئيساً لتحقيق استراتيجية الانتقال إلى اقتصاد رقمي.
• تعزيز القطاعات غير النفطية، مثل السياحة والصناعات التحويلية والتكنولوجيا المعلوماتية والتجارة الإلكترونية، بما يتطلب ذلك، ويرتبط بتعزيز سياسة الانفتاح وتشجيع وتسهيل دخول المستثمرين وموظفيهم من أصحاب الخبرة والكفاءة وعائلاتهم الى البلاد.
خلاصة القول إن تحوّل الكويت إلى اقتصاد رقمي يشكل خطوة مهمة وضرورية لمستقبل الأجيال الشابة وتخفيف الأعباء عن الميزانية العامة، الأمر الذي يرتبط بالتصميم الاستراتيجي على الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا، مما يقتضي على الجهات المختصة توفير شبكات اتصال عالية السرعة ومستقرة، جمع وتحليل وتوفير البيانات المخوّلة أن تتحول الى منتجات رقمية وحمايتها من التهديدات السيبرانية، وبناء شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات التعليمية في هذا الشأن.
* كاتب ومستشار قانوني.