تفاعلاً مع ما نشرته «الجريدة» في عددها الصادر في 10 الجاري تحت عنوان «بطء حسم النزاعات الاقتصادية يعرقل التدفق الاستثماري»، أكدت هيئة أسواق المال توافقها مع القضية التي تم طرحها ومدى أهمية وضرورة السرعة في بتّ المنازعات الاقتصادية.
وبهذه المناسبة، سلّطت مصادر مسؤولة في هيئة أسواق المال، في تصريحات خاصة لـ «الجريدة»، الضوء على «نظام التحكيم» لدى الهيئة، الذي حظي باهتمامها منذ سنوات تأسيسها الأولى، نظراً إلى دوره الحيوي البالغ الأهمية في تجاوز بطء حسم نزاعات تعاملات أنشطة الأوراق المالية، وما يترتب عليها من أثمانٍ اقتصادية لا تقف عند حدود الخسائر التي يتكبدها أطراف تلك التعاملات فحسب، بل تتجاوز ذلك لتنعكس سلباً على بيئتنا الاستثمارية بطريقة أو بأخرى.
وذكرت المصادر أن الهيئة استهدفت التوصل إلى نظام تحكيم «محكم» و«مؤسسي» عبر إجراءاتٍ وتعديلات متلاحقة بهدف تطوير مختلف جوانبه وتجاوز مثالبه التي أظهرها ويظهرها التطبيق العملي، فكان إنشاء نيابة ومحاكم متخصصة بأسواق المال، وإنشاء الدوائر ذات الصلة، كما تم العمل على اختصار الدورة المستندية لإجراءات التقاضي، وبت الدعاوى وتسوية المنازعات وتسريع وتيرتها، وتعديل جداول رسوم وأتعاب المحكمين تشجيعاً للمستثمرين، أفراداً وشركات، للجوء إليه سبيلاً لفض منازعاتهم، وغيرها الكثير.وفي حقيقة الأمر، أوضحت أن توجهات الهيئة، آنفة الذكر، أتت في إطار جهودها للارتقاء بمفاصل عمل منظومة أسواق المال الرقابية والتنظيمية والتشريعية، والتوافق مع المعايير الدولية المطبقة، مع الإشارة إلى أن الإطار التشريعي كان خطوتها الأولى في هذا المجال، حيث كانت اللائحة التنفيذية لقانون إنشاء الهيئة الصادرة عام 2015 أكبر عمل تشريعي وتنظيمي في تاريخ الكويت بتكاملها ووضوحها وشمولها لمختلف الأنشطة ذات الصلة بالأوراق المالية، كما كانت بمنزلة المرجعية الوحيدة لتلك الأنشطة، مع تضمنها كافّة التشريعات والضوابط والأحكام المطلوبة التي تنظم عمل أسواق المال وأنشطة الأوراق المالية. وأفادت المصادر بأن الارتقاء بكفاءة نظام التحكيم، كان واحداً من مفاصل هذا الإطار التشريعي الذي مثّل أداةً فاعلة للفصل في المنازعات الناشئة عن التعاملات المتصلة بأنشطة الأوراق المالية.
وبينت أن ما بلغه نظام التحكيم لدى الهيئة من تطوّرٍ نوعي ظاهرٍ للعيان - دون أن يعني ذلك عدم الحاجة إلى مزيد من التعديل والتطوير - وهو ما تعكف الهيئة على العمل في إطاره راهناً، لكنّه يمثّل - برأي الكثيرين - نموذجاً يستحق المحاكاة لتسوية منازعاتنا الاقتصادية بوجهٍ عام، على غرار تلك المتصلة بأنشطة الأوراق المالية.
في إطارٍ متصل، أكدت مصادر الهيئة أن جهودها في هذا الصعيد تندرج في إطار سعيها لضمان نزاهة تعاملات الأوراق المالية، وحماية مصالح الأطراف ذات الصلة، بما في ذلك مصالح الشركات ومساهميها ومستثمريها، وحمايتهم من ممارسات وترتيبات قد تمثّل إضراراً بهم نتيجة لما قد تواجهه الدعاوى الاقتصادية من امتدادٍ لأمد التقاضي لسنوات نتيجةٍ إلى كمّ الدعاوى المرفوعة أمام الجهات القضائية، وما يترتب على ذلك من إضاعةٍ لوقت المتخاصمين، وهدراً لأموالهم، وضياعاً لحقوقهم.
قضية حيوية ومطالب محقة!
وأشارت إلى أن ملف تسوية المنازعات الاقتصادية والمالية بشكلٍ عام، وبأنشطة الأوراق المالية بصورةٍ خاصة، يُعد شائكاً ومعقّداً إلى حدٍ بعيد، وأن الحاجةً ماسة للتوصل إلى «نظام قانوني حاسم وسريع» لضمان سرعة بتّ الخلافات التجارية والاقتصادية، بما يتفق مع متطلبات التوجهات التنموية المستهدفة بالتحول إلى مركزٍ مالي وتجاري إقليمي، وما يستلزمه من استيفاء لمقومات البيئة الاستثمارية المطلوبة، والتوافق مع المعايير الدولية المطبقة، الأمر الذي لا يستقيم مع مسارٍ مطول لحسم الخلافات التجارية والتعاملات المالية يمتد أعواماً نتيجة لوجود جهة واحدة لبتّ النزاعات الاقتصادية، ولما يرتبه ذاك التأخير من انتقاصٍ لحقوق بعض أطراف تلك المنازعات. وأشارت إلى أن ذلك كان دافع الهيئة للعمل إلى التوصل إلى نظامٍ قضائي مرن خاص بأنشطة الأوراق المالية يتفق مع «ديناميكية» هذه الأنشطة من ناحية، ويحقق أقصى درجات التوافق الممكنة مع معايير الجهات الدولية ذات الصلة من ناحيةٍ أخرى. وبينت المصادر أن ما تم في هذا الإطار - وإن لم يبلغ حد الكمال بطبيعة الحال - فإنه قد أسهم كثيراً في الحد من الممارسات المخالفة، وفنّد إلى حدٍ بعيد مراهنات المتلاعبين على طول أمد التقاضي لسنوات، كما شكّل واحداً من أدوات منظومة سوق المال للارتقاء بتصنيفه وفق معايير وكالات التصنيف الدولية الخاصة بالأسواق الناشئة.
ورأت أن التوجهات التنموية آنفة الذكر، والتطورات المتسارعة في الأنشطة الاستثمارية والتجارية، وتعدد مجالاتها وأنماطها، وتعاظم دور التقنيات المستحدثة في تلك الأنشطة تستلزم وجود منظومة تقاضٍ حديثة، ومرنة، تواكب التطور المتسارع، وتستوعب التقنيات والآليات المطبقة، وتراعي مقومات تحقيق العدالة وسرعة بتّ القضايا بذات الوقت، وهي أساسيات البت في الدعاوى الاقتصادية.
محاكم أسواق المال
وأفادت المصادر بأن جُل الاعتبارات السابقة تمت مراعاتها على صعيد المنازعات المتصلة بأنشطة أسواق المال والأوراق المالية، مع إنشاء نيابة سوق المال متخصصة في التحقيق والتصرف بالجنايات والجنح المنصوص عليها في قانون إنشاء الهيئة رقم 7 لسنة 2010، وكذلك بجنايات التدليس المنصوص عليها في المادتين 235,236 من قانون الجزاء، والجرائم المرتبطة بهما.
ولفتت إلى أنه تم إنشاء محكمة أسواق المال بالمحكمة الكلية، تنفيذاً للمادة 108 من قانون إنشاء الهيئة، وتتألف من دوائر جزائية تختص دون غيرها بالفصل في الدعاوى الجزائية المتعلقة في الجرائم المنصوص عليها في القانون آنف الذكر، ودوائر غير جزائية تختص بالفصل في الدعاوى غير الجزائية المتعلقة بالمنازعات التجارية والمدنية الناشئة عن تطبيق أحكام قانون إنشاء الهيئة والأنظمة واللوائح الخاصة بسوق الأوراق المالية، ومنازعات التنفيذ الموضوعية المتعلقة بالأحكام الصادرة منها، حيث تتشكل هذه الدوائر من 3 قضاة أحدهم بدرجة مستشار على الأقل، مراعاة لأهمية دعاوى أسواق المال ناحية، وضماناً لحصافة القرارات الصادرة من ناحية أخرى.
وقالت إنه تم إنشاء 4 دوائر تحت مظلة المحكمة الكلية (دائرة جنح ومفوضة أسواق مال، دائرة جنح مستأنفة وأسواق مال) إضافةً إلى دوائر مستعجلة تختص دون غيرها في النظر بالدعاوى المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت جراء الإجراءات المتّبعة في الدعاوى الأخرى، إضافة إلى دوائر استئناف مستعجل وأسواق مال.
وفي إطارٍ متصل، وسعياً لاختصار الإجراءات المتعلقة ببتّ الدعاوى المتصلة بأسواق المال، ذكرت المصادر أن المشرّع كفل حق التقاضي أمام محكمة أسواق المال على درجتين فقط، على أن يكون الحكم الصادر من الاستئناف من محكمة الاستئناف حكماً باتاً لا يجوز الطعن عليه، كما تم تحديد آليات خاصة بالإعلان (فاكس، بريد إلكتروني) مختلفة عن تلك المحددة في قانون المرافعات، كما راعت المادة 111 من قانون إنشاء الهيئة عبر بنودها المختلفة المتعلقة باعتبار الدعوى كأن لم تكن في حالات عدّة وبصورة مختلفة عن قانون المرافعات بهدف سرعة الفصل في دعاوى أسواق المال.
كل ما سبق، ووفق المصادر، يؤكد حرص المشرع - قدر المستطاع - على مراعاة صفة الاستعجال والخوف من فوات الوقت في القضايا المتصلة بأنشطة الأوراق المالية التي عادةً ما تتسم بالديناميكية والتطور اللحظي، وتكفي الإشارة هنا إلى كمّ البلاغات المقدمة من الهيئة لنيابة سوق المال، دون أن ينفي ذلك الحاجة إلى مزيد من التفعيل لإجراءات التقاضي، وتحقيق المزيد من سرعة بتّ النزاعات الناشئة عن معاملات الأوراق المالية.
حلول جذرية في 4 مسارات
تفيد مصادر الهيئة بأنه سعياً للتوصل إلى حل نهائي لمعالجة بطء حسم النزاعات الاقتصادية، فإنه لا بدّ من تطبيق تحكيم مؤسسي مماثل لما هو مطبّق على صعيد تعاملات الأوراق المالية على مختلف الصُّعد أو الأنشطة، وتفعيل نظام التحكيم المطبق بالهيئة من قبل الخصوم ضمن إطار أنشطة الأوراق المالية، وتحرُّك تشريعي لإنشاء محاكم اقتصادية متخصصة في مختلف الأنشطة الاقتصادية والتجارية.ودعت المصادر كل مستثمري الأوراق المالية من شركات وأفراد للجوء إلى نظام التحكيم لديها واعتماده لفض النزاعات المتعلقة بتعاملاتهم، نظراً لما يتيحه من سرعة بتّ تلك النزاعات، وما يقدمه من حماية لأموالهم وحقوقهم، وإقلالاً للتكاليف المترتبة عليهم وحدّاً للمخاطر المتصلة بضياع فرصهم الاستثمارية جراء طول أمد التقاضي وفق إجراءاته المعتادة.
نظام التحكيم لدى الهيئة
عملت هيئة أسواق المال منذ إنشائها على التوصل إلى «نظام تحكيم متكامل» تفعيلاً للمادة 148 من قانون إنشائها التي نصّت على أنه «يجوز تسوية المنازعات الناشئة عن الالتزامات المقررة في هذ القانون أو أي قانونٍ آخر إذا تعلقت بمعاملات سوق المال عن طريق نظام التحكيم، وفقاً للنظام الخاص بالتحكيم الذي تضعه الهيئة»، إذ تم تشكيل لجنة لوضع نظامٍ متكامل للتحكيم لدى الهيئة، ولجنة أخرى لاختيار المحكمين والخبراء، كما تم إعداد جدول للرسوم والأتعاب تشجيعاً للمتعاملين، كما أتاحت الهيئة لأطراف النزاع اختيار محكمين عنهم.يذكر هنا أن الهيئة قد قيّدت العديد من المحكمين المتخصصين ذوي الخبرة والذين يتيح تعيينهم من الخصوم سرعة بتّ الدعاوى التحكيمية لتخصصهم، وبالتالي تشكيل هيئة للتحكيم، كما حدد كتاب إنفاذ القانون في فصله الثاني عشر «تسوية المنازعات بالتحكيم ونظام التحكيم» مدة 4 أشهر من تاريخ أول جلسة صحيحة يعلن بها طرفَي التحكيم. أما في المنازعات الناشئة عن تعاملات الأوراق المالية التي تجرى في البورصة ذات الطبيعة الخاصة والمتعلقة بموضوعات حددتها المادة 12-1-6 من الكتاب الثالث من كتب اللائحة التنفيذية لقانون إنشاء الهيئة، والتي حددت مدة التحكيم بشهرٍ واحدٍ فقط تبدأ من تاريخ انعقاد أول جلسة، وذلك مراعاة لأهمية عامل الوقت على صعيد هذه التعاملات.
ولم يأت توجُّه الهيئة لاعتماد التحكيم واحداً من أدواتها للفصل في المنازعات من فراغ، وإنما لاعتبارات يتيحها «التحكيم المؤسسي» المنظم من الهيئة، والذي يمكن الأطراف من سرعة إنهاء الخصومة وفضّ النزاع، وتوفير الوقت والجهد والمال، وتقليل الخسائر المترتبة على التأخر في الفصل في النزاعات وضياع فرص استثمارية.
ولم تكتف الهيئة بذلك، بل سعت لتفعيل أدواتٍ مساندة، كتفويض هيئة التحكيم بالصلح بما يساعد على تخفيض الرسوم المقررة، وتقصير أمد التقاضي واختصار الدورة المستندية لتنتهي عملية تسوية المنازعات قبل البدء بها، حيث نصت المادة 12-3-19 على أنه:
«يجوز لطرفي التحكيم أن يفوّضا هيئة التحكيم بالصلح بينهما إذا ما تم تعيين أعضاء هيئة التحكيم بالاسم في اتفاق التحكيم، كما يجوز لهما أن يطلبا منها في أية مرحلة إثبات ما اتفقا عليه من صلح أو تسوية، وتصدر هيئة التحكيم حكمها بذلك».
يذكر هنا أن مميزات عدة يكتنفها اعتماد التحكيم واختصار الدورة المستندية وسنوات التقاضي، كسرعة بتّ المنازعات وحلّ الخلافات، ومراعاة مقومات السرية والخصوصية، وتقليل التكلفة، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار معرفة مؤهلات وخبرات المحكم قبل اختياره، إضافةً إلى أن الحكم الصادر هو حكم نهائي يذيّل بالصيغة ولا يُستأنف إلا في حال وجود خطأ بالإجراءات، وهذا ما نصت عليه المادة 12-4-5 من اللائحة التنفيذية التي نصت على نهائية الحكم «يكون حكم التحكيم ملزماً ونهائياً، ولا يكون حكم التحكيم قابلاً للتنفيذ إلا بعد الحصول على الصيغة التنفيذية وفقاً للإجراءات القانونية المقررة في الباب الثاني عشر من قانون المرافعات المدنية والتجارية».
وفي إطار التعديلات المتعلقة بتفعيل نظام التحكيم، يشار إلى قيام الهيئة بخفض رسوم وأتعاب المحكمين والخبراء والرسوم الإدارية، وثمّة مقترح بتأجيل الرسوم الإدارية للمحتكم، حتى يتم صدور الحكم النهائي لإضفاء نوع من المرونة على النظام والتشجيع لاعتماده أداة للتقاضي.