يمتلك بعضنا أسهماً في شركات مدرجة بأسواق المال النشطة حول العالم، من أجل الاستثمار البعيد المدى تحقيقاً لعوائد مجزية، أو من أجل المضاربة السريعة على أسهم شركات بعَيْنِها.

فاليوم، يستطيع كل منّا - بواسطة شركات الوساطة المختصة في التداول - شراء أسهم في هذه الشركات حول العالم دون حاجة للانتقال جغرافياً إلى الدولة المُدْرَجة فيها هذه الشركات، نقوم بذلك ونحن في مكاننا عبر تنزيل التطبيق الإلكتروني لهذه الشركات في هواتفنا المحمولة.

Ad

فنحن من نقوم باستلام الأرباح على أسهمنا في أيام السعد، ونحن مَن يُحْرَم من هذه الأرباح في الأيام العصيبة للشركة. وفي أسوأ الأحوال، سنخسر قيمة أسهمنا المشتراة فقط دون غيرها، وهذا بطبيعة الحال محض تطبيق لمسؤولية المساهم المحدودة في الشركات المساهمة العامة.

هذا التنظيم كما نعرفه اليوم لم يكن موجوداً في الأزمنة السابقة، إذ كانت المخاطر قريناً ملازماً لفكرة الاستثمار الفردي. فكانت التعاقدات من أجل الاستثمار تأتي في صورة شراكات تضامنية General Partnership، وظهرت هذه الشراكات في الجمهوريات البحرية الإيطالية القديمة، إذ انتشرت بين أفراد العائلات الواحدة، أو بين الأصدقاء، أو عند غيرهم من الراغبين في الاستثمار.

وقد يكون محل تجارتهم شراء البضائع وبيعها وما يترتب على ذلك من نقل وتخزين وشحن، فيقدم كل شريك هنا حصة في رأس المال آملاً الحصول على الأرباح الناتجة عن النشاط المُتّجَر فيه، وهذه - بلا شك - ميزة من المزايا.

إلا أن السلبيات هنا أكثر فداحة، فإذا ما تعرضت تجارتهم لخسائر ما، فإن مسؤولية الشركاء لن تتوقف عند حصصهم المقدمة، بل ستتعداها لتشمل كل ما يملكون، لأن مسؤوليتهم غير محدودة، إذ هي مسؤولية مطلقة من شأنها أن تلحق الشركاء في أموالهم الخاصة التي يستطيع دائنو الشراكة تتبُّعَها لدى تعثّرها مالياً.

أدت شراكات التضامن هذه إلى عزوف العديد عن الاستثمار بها، لأن أي خطأ - بقصد كان أو عن غير قصد - قد تترتب عليه حالات إعسار وإفلاس غير متناهية.

من هنا، بدأت إرهاصات مفهوم الشركة المساهمة العامة تتشكل، بحيث تتحدد مسؤولية كل من ساهم بجزء من رأسمال الشركة بمقدار حصته التي قدَّمها دون أن تمتد إلى أمواله الخاصة.

لذلك، فإن فكرة الشركة المساهمة العامة أدت إلى حدوث نقلة نوعية، إذ مع تحييد مسؤولية المساهم بما قدمه، يستطيع المساهمة في أكثر من شركة دون أن يلاحقه شبح فقدان ما لديه من أموال وممتلكات.

دفع ذلك العديد من الأفراد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية إلى شراء أسهم الشركات التي يرون أنها ملائمة للاستثمار وتحقيق عوائد جيدة بدلاً من إمساك أموالهم مخافة خسارتها في شراكات تضامنية ذات مخاطر محدقة.

ويُعد اكتتاب شركة الهند الشرقية الهولندية Dutch East India Company، أول اكتتاب في العالم يصدر عن شركة مساهمة عامة، وذلك في بدايات القرن السابع عشر، في عام 1602 تحديداً، إذ كان هدف إنشائها هو النقل البحري للتوابل من مستعمرات هولندا في آسيا إلى هولندا وباقي الدول الأوروبية.

تطلّب الواقع وجود مثل هذا التنظيم، لمعالجة الخسائر التي كان يتكبدها التجار في شراكاتهم ذات المسؤولية اللامحدودة.

إضافة إلى ذلك، توزعت المخاطر على عدد كبير من المساهمين الجدد الذين لم يكن باستطاعتهم الدخول في شراكات مشاريع عبر البحار.

وتشير وثائق الاكتتاب في محفوظات بورصة أمستردام إلى أن مشتري الأسهم هم من طبقات اجتماعية متعددة: فهناك محامون، خبّازون، نسّاجون، ملاك دكاكين صغيرة، وعاملات منازل.

فلم تقتصر مزايا إنشاء هذه الشركة هنا فقط على تحييد المسؤولية، بل أدت أيضاً إلى تسهيل دخول طائفة جديدة من ملاك الأسهم لم يكن باستطاعتهم تملك حصص في شركات ذات نشاط مشابه، لسبب أو لآخر.

فليست المسؤولية المحدودة هي وحْدها التي شجَّعت على وجود الشركات المساهمة العامة، بل الحصول على التمويل الكافي لنشاط الشركة، على الأخص عند وجود مشاريع توسعية تتطلب جَمْع الأموال من شريحة عريضة من المستثمرين.

خير مثال على ذلك هو شركة فيرجينيا The Virginia Company التي أنشأها الملك جيمس ملك إنجلترا، في عام 1606، كمحرك لاستكشاف العالم الجديد.

فبعد أن وَطِئَت إنجلترا الساحل الشرقي لما يسمى الولايات المتحدة الأميركية حالياً، أطلقت اسم فيرجينيا عليه، تيمّناً بملكة بريطانيا إليزابيث الأولى، المسماة بالملكة العذراء The Virgin Queen لأنها لم يسبق لها الزواج حتى وفاتها في عام 1603.

فشركة فيرجينيا كان لها أن تَنْشأ كشركة ذات مسؤولية محدودة عبر مجموعة من مغامري التجار بدلاً من أن تكون شركة مساهمة عامة، لكن ذلك لم يحصل لسببين: الأول خشية التجار المغامرين من الأرستقراطيين الإنجليز من حيث الدخول في شراكة ذات مسؤولية محدودة عبر دفع مبالغ طائلة قد يخسرونها في مثل هذا المشروع الذي يعتمد اعتماداً جوهرياً على زراعة التبغ وتقطيع الأخشاب ونقلها بحراً إلى إنجلترا.

أما الثاني، فهو ضرورة دخول ملاك لديهم الاستعداد للذهاب إلى العالم الجديد والحفاظ على مصالح الشركة لكونهم يمتلكون جزءاً من رأسمالها، لأن التجار الإنجليز لم يرغبوا في ترك لندن من أجل سبر أغوار عالم مجهول لا يشابه عالمهم، فجل ما يرغبون فيه هو الحصول على أرباح مع تقليص خسارتهم إلى أقصى حد ممكن.

وفي وقتنا الحالي، أضحت الشركات المساهمة العامة هي المحرك الرئيس للاستثمارات في بورصات الأوراق المالية، إذ تقدر القيمة السوقية للشركات المدرجة في أسواق العالم كله بنحو 120 تريليون دولار، أكثر من نصفها يُتَداوَل به في أيام العمل في بورصتي نيويورك وناسداك NYSE & NASDAQ في الولايات المتحدة، ما يُعد أكبر سوق تداولي على مستوى العالم.

في الحقيقة، أدت الشركات المساهمة العامة هذه دوراً حيوياً في منح الطبقة الوسطى الأميركية على الأخص مكنة تنمية مدخراتهم عبر الأرباح التي يتحصلون عليها سنوياً كمستثمرين على المدى البعيد، وليس كمضاربين، ومن ثم استخدامها عند الحاجة إليها.

وتسعى الدول اليوم إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تنمية لاقتصادها عبر تقديم تسهيلات وحوافز مختلفة. ولا يقتصر جذب المستثمر الأجنبي على الاستثمارات المباشرة هذه، بل يتناول أيضاً الاستثمارات غير المباشرة عبر شراء أسهم الشركات المساهمة العامة المدرجة في البورصات المحلية، إذ تسعى هذه الأخيرة إلى نيل ترقية من مؤسسات مالية خاصة بتقويم البورصات، كمورغان ستانلي الخاص بالأسواق الناشئة MSCI، من أجل الحصول على حصة من تدفقات الاستثمارات الأجنبية، ومن ثَم زيادة السيولة وحَوْز ثقة المستثمرين.

وعملاً، تدفقت أموال أجنبية لبورصة الكويت بعد ترقيتها لمؤشر الأسواق الناشئة لمورغان ستانلي تجاوزت قيمتها 3 مليارات دينار.

والاستثمارات هنا تكون من قبل مستثمرين مؤسسين Institutional Investors كالبنوك، صناديق التحوط، وصناديق الاستثمار المشترك.

على أن الاستثمار في بورصات الأسواق المالية لا يقتصر فقط على المؤسسات، بل يمتد ليشمل المستثمرين الأفراد أيضاً Individial Investors، فالعديد من الدول حول العالم تسمح لغير مواطنيها بشراء أسهم في بورصاتها المحلية، بل وتشجّع على ذلك جذباً للسيولة، ولرفع عائدات الضرائب على الأسهم.

ولضمان تلك التدفقات، تسعى الدول إلى سن قوانين تحمي الجميع، مواطنين وأجانب، كيانات مؤسساتية أو أفراداً. من ذلك، الحظر القانوني للتعامل بالمعلومات غير المُفْصَح عنها، قوانين الإفصاح والشفافية، قواعد فعّالة ضد التلاعب بالسوق، وحماية أقلية المستثمرين.

لكن الأهم من ذلك كله هو توافر مناخ سياسي مستقر للاستثمار.

* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال

كلية الحقوق – جامعة الكويت