أعادني الصديق اليمني والزميل حسين باسليم إلى أجواء «عدن» يوم زرتها أثناء الوحدة في شهر مايو 1989 وتجولنا في أحيائها ومبانيها البيضاء، ومينائها الساحر ونحن نجلس في نادي الضباط لتناول السمك الطازج.
تأثرت بما خطته أنامل «ابن عدن» عندما قرر الذهاب إلى «ميناء السواح» ليستقل قارباً صغيراً يقوم مساء كل خميس برحلات قصيرة لمن يرغب مقابل دولار واحد للشخص، ويطوف بمينائها في مختلف أرصفته الممتدة من «السواح، إلى الاصطياد، إلى المعلا والحاويات».
باسليم، لم يعرف في حياته سوى أن عدن هي الميناء والميناء هو عدن، بعد تعرض إلى نكبات بعد رحيل الإنكليز عنه الذي استمر 128 عاماً.
كانت المناظر التي التقطتها كاميرا صديقنا للميناء (حي التوّاهي وحي المعلا) والذي سكنه طفلاً حتى اليوم، عبارة عن شريط من الذكريات وهو يتأمل الميناء خالياً من السفن، وهو الذي كانت الحركة فيه لا تتوقف ليلاً نهاراً.
عدن تشكو حالها كيفية معظم المدن والعواصم في اليمن المنقسم والخراب الذي طاله، وكأنها تطلق صرخة الاستغاثة متى نصحو وتعود هذه «العروس اليمنية» إلى سابق عهدها، مدينة الجمال والحب والعمل؟
فات صديقنا اليمني أن العصر الذهبي لعدن كان في عهد الإنكليز لا في عهد الأئمة، فهنا جهل وتخلف وهناك علم وبناء وإنتاج وتنظيم، وإذا شئنا الإبحار في محيط عدن فأقرب واحة غناء بالثقافة والعلم هي حضرموت، أين هي الآن مما كانت عليه؟
لمن زارها ويعرف تضاريسها، وبوصف من عاش فيها وشاهد رصيف السواح كما نقلته إلينا سيدة يمنية تقيم في الكويت، حول متنزه التواهي ذاك الحي الراقي والجميل، تقبع فيه معالم لم تفارقها الكنيسة الأثرية وساعة بيغ بن التي بناها الإنكليز، وتنقلك إلى أجواء لندن التاريخية، والأكثر شهرة «مقابر» البريطانيين في «القلوعة» ما زالوا حتى اليوم يشرفون عليها ويهتمون بها.
الدخول إلى تاريخ عدن من بوابة الإنكليز له ما يبرره، فقد تراجع نشاط هذا الميناء أو كاد يموت بعد مغادرتهم له عام 1967، وجاء ذلك متزامناً مع «ثورة الكفاح المسلح» والإضرابات التي شلّت عدن عام 1965 فلا جيبوتي ودول القرن الإفريقي عادت بحاجة إلى شراء احتياجاتها من عدن، وحتى دروع «الويل الكانيبو» وفوط «بن علوي» و«بوقارورة» أصبحوا يستوردونها من البلدان المصنعة!
كم هي مفارقة صعبة عندما نستمع إلى أحد أبناء سلطنة عمان وهو يتحدث عن تاريخ هذه المدينة كيف أن سلطان عمان، السلطان سعيد كان يطلب من العاملين في بلاطه الذهاب بالباخرة إلى عدن لإحضار 10 ساعات من نوع رولكس لتقديمها إلى ضيوفه، يوم كانت عدن وحدها في المنطقة تحتضن أشهر ماركة ساعات بالعالم ومقرها الرئيس في جنيف.
أهل البحر في الكويت لديهم ذكريات وعلاقة وطيدة وراسخة مع عدن وموانئ اليمن أيام الغوص على اللؤلؤ والتجارة البحرية مع الهند، هذا بخلاف ارتباطهم مع سكان المهرة وحضرموت وعدن وصنعاء وغيرها من المدن.
من أجمل ما قرأت عن عدن، ذاك الوصف الذي أطلقه الروائي اليمني، علي المقري في روايته «بخور عدني» فهذا البخور من أبرز مكونات المدينة ومن السمات المميزة في عدن، تصنعه بطريقة خاصة، وفي كل مرة تتبدل رائحته وشكله، كانت عدن البديل عن الوطن بالنسبة إليه، كمؤسسة تحتضن التنوع والانفتاح، لكنها باتت اليوم تضيق بالتنوع والتعدد، متمنياً أن تعود عدن اليمنية العظيمة بإرثها التاريخي لترميم ذاكرتها وجراحاتها نحو المستقبل.
أما سعدي يوسف، فله حكاية من العشق مع هذه المدينة، ذهب إليها ليعيش فيها فترة من أبهى ما عاشته في حياته المرتبكة، زارها عام 1981 ونزل في «الفندق البحري»- الغولد مور- على ساحلها الذهبي بالتواهي، زيارة عمل على توثيق مشاهداتها بقصائد عدة في ديوانه «يوميات الجنوب... يوميات الجنون». اتخذها مقاماً وأهلاً ظنهما مرسى أخيرا له، بدءاً من 1982 بعد أن أرغمه أرييل شارون على مغادرة بيروت إلى أن انقطع فجأة وعلى نحو مفجع بكارثة أحداث يناير 1986 ويغادرها مودعاً، لا رجوع فيه. تلك اللحظة قال فيها قصيدة مكتوبة، هل تعرفين الوداع؟ وهل تذكرين عدن يا عدن؟