يتندّر اللبنانيون على أوضاعهم المالية، ويعزّون أنفسهم بشفط ودائعهم في البنوك مثل المودعين من أهل الخليج وغيرهم، فهم متساوون في الخسارة، ويتداولون قصة «بنك أنترا» الذي بدّد بدوره أموال المودعين في أكبر عملية إفلاس وانهيار تشهدها المنطقة العربية «لإمبراطورية يوسف بيدس» عام 1966، فقد تجاوز البعض مقولة إن «التاريخ يعيد نفسه» وصارت العبارة «التاريخ يغيظ نفسه».

صورة المودعين أمام «بنك أنترا» عام 1966 لا تغيب عن عينيّ، فقد شاهدتها ووقفت أتطلع مذهولاً وأنا أسأل بعض المارة، ماذا حصل؟

Ad

استمتعت بمشاهدة فيلم تاريخ تلك الإمبراطورية وأنا عائد على متن طيران الشرق الأوسط من بيروت إلى الكويت، وسبق لي أن عرضت كتاب كمال ديب الصادر عن «دار النهار» للنشر عام 2014 بعنوان «يوسف بيدس وحيتان المال في لبنان».

انتهى هذا الرجل بدفن جثمانه في جنيف بعد أن أفلتْ تلك الإمبراطورية، وانتهت بالكثير من الجدل، وأثارت الأسئلة قبل رحيله وبعده، ولم تتوقف حتى اليوم، فلن نعيد قصة أنترا وإيراد اسم المرحوم الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح، وما إذا كانت الرواية التي أوردها كمال ديب صحيحة لأن الزميل و«الصيرفي» أحمد الصراف يشكك فيها.

استطاع بيدس أن يحول «أنترا» إلى بنك عالمي واستقطب أموالاً خليجية هائلة، وتوسعت استثماراته في لبنان والعالم، وكان أول بنك عربي يفتتح فروعاً له في نيويورك ولندن وجنيف وباريس وروما وألمانيا، سيطر على طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان وفندق السان جورج، وارتفع رأسماله من 12 مليون ليرة عام 1950 إلى 250 مليون ليرة عام 1965 يوم كانت الليرة تلمع ذهباً.

تحول إلى قطب دولي في عالم المال، وامتلك سلطة مطلقة باتخاذ القرارات الكبرى دون الرجوع إلى أحد ودون العودة إلى مجلس الإدارة، وكانت هذه الخطوة أول الأخطاء المميتة وبداية الانهيار، حتى قيل إن بيدس هو «أنترا» و«أنترا» هو بيدس، فهو مغامر إلى حد التهور، بل كان أشبه بفرقة تعمل على يد رجل واحد، يأمر فتنفذ أوامره، وكان بإمكانه إغواء أي شخصية مهما علا شأنها، وجلب لنفسه النقمة والحسد وتعرض إلى حروب بسبب أصوله الفلسطينية بالرغم من نيله الجنسية اللبنانية، وتضخم حجم بنك أنترا، وكان يعمل لديه 30 ألف موظف، و15 ألف متعاقد خارج لبنان.

ثاني الأخطاء المميتة التي ارتكبها تقديم قروض بملايين الدولارات إلى أعضاء في مجلس الإدارة وأصدقائه دون ضمانات فعلية، وكان يتبجح بسطوته ونفوذه على الطبقة السياسية لدرجة أن السياسة اللبنانية صارت تدور في فلك «إنترا».

منتصف الستينيات بدأ شح السيولة يلوح في الأفق، لم يستطع أن يلبي المودعين الذين هرعوا إلى سحب مدخراتهم وأموالهم، فقد توقف عن الدفع بحيث بلغت التسليفات 3 أضعاف الودائع، وبالرغم من صدور قانون السرية المصرفية عام 1956 فإن رقابة البنك المركزي كانت ضعيفة، ولم تحل دون سقوطه.

قصة بيدس تدرّس، حيث بدأ بشركة صيرفة عام 1948 ليصبح عام 1964 على رأس إمبراطورية عملاقة تدور حول العالم وبموجودات فاقت المليار دولار، وتجاوز الخطوط الحمر، فقد بنى قصر أحلامه وهبط فيها على الأرض وخلط العمل المصرفي بعالم السياسة والمخابرات، سطع اسمه في لبنان والعالم العربي وانتهى في مقبرة بمدينة جنيف، وتبخرت أموال المودعين، ووضعت جريدة «التلغراف» اللبنانية عنوانها الرئيسي عام 1968 «قراصنة المال يهربون» وكأنها تؤكد مقولة «التاريخ يعيد نفسه» أحياناً، وتحاكي واقع اللبنانيين الآن والسؤال هو: أين رياض سلامة والمتسببون بشفط الودائع وشطبها؟