بعد جولة عالمية مصغرة لزعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر، والقمة التي عقدها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يدور نقاش متزايد حول إعادة تقييم المملكة المتحدة علاقتها مع كتلة الاتحاد الأوروبي وطريقة ضبطها، ويحافظ حزب العمال على موقفه المؤيد لبقاء بريطانيا داخل الكتلة الأوروبية، إضافة إلى الشعور المتزايد بخيبة الأمل بين الناس في بريطانيا إزاء نتائج «بريكست» (مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي).
والواقع أن كلاً من مؤيدي «المغادرة» وأنصار «البقاء» لديهم أسبابهم للشعور بالاستياء من الاتفاق الذي تفاوض عليه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، من أجل «إنجاز الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي»، وفي المقابل، لا يرغب أي من الأحزاب البريطانية بما فيها حتى حزب «الديموقراطيين الأحرار»، في تحويل وجهة الانتخابات المقبلة في المملكة المتحدة إلى جدل آخر مثير للانقسام حول أوروبا، ومع ذلك، لا تزال الخيارات مطروحة لإرساء علاقة أوثق مع بروكسل، ومن المقرر أن تبدأ المراجعة الرسمية لاتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2025.
ماذا يريد ستارمر؟
من الصعب إلى حد ما أن نحدد بدقة نيات ستارمر في هذا الشأن، إذ يركز على الاحتفاظ بموقفه التفاوضي على رغم نقاط ضعفه، لذا، قد لا نملك فهماً واضحاً لأهدافه إلى حين التوصل لإبرام صفقات فعلية (وحينها سيعلن أهدافه بوصفها انتصاراً بغض النظر عن حجم التنازلات المحتملة)، ومن المؤكد أنه لا يريد إعادة بريطانيا إلى منظومة الاتحاد الأوروبي أو سوقها الموحدة أو الاتحاد الجمركي، لأن من شأن ذلك أن يعيد فتح جروح قديمة متعلقة بمغادرة المملكة المتحدة الكتلة الأوروبية، ويحكى أيضاً أنه لا يرغب في الحصول على وضع «العضو المنتسب» في المنظومة، لأسباب مماثلة، وفي هذا السياق، ثمة أمثلة بارزة كثيراً ما يجري الاستشهاد بها هي النرويج وسويسرا، ويملك البلدان علاقات مميزة مع الاتحاد الأوروبي، تنطوي على درجات مختلفة من المشاركة، على غرار قبول الاتحاد الجمركي (النرويج) أو المشاركة الجزئية في السوق الموحدة (سويسرا)، أو مشاركتهما كليهما في «منطقة شنغن» الخالية من التأشيرات.
إضافة إلى ذلك، ندرك أن ستارمر يسعى بنشاط إلى إبرام اتفاقات مع الاتحاد الأوروبي في شأن ملفات عدة، يبرز من بينها الفحوصات البيطرية والصحية للمواشي، والمنتجات الغذائية الطازجة، وبلورة نوع من ترتيبات «إعادة» المهاجرين (غير الشرعيين)، وتسهيل الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي بغية الحصول على الخدمات المهنية المنشودة في المملكة المتحدة، وتعزيز التعاون في شؤون الدفاع والأمن، فيما ستواصل بريطانيا جهودها في تحسين القواعد المتعلقة بإيرلندا الشمالية وحركة الركاب بين الجانبين.
ومن المتوقع أن تستلزم تلك المساعي نهجاً مفصلاً على قياسها، يتسم بسلسلة من الخطوات المحسوبة والتدابير التدرجية التي قد توصف من قبل بعض المعارضين الذين يكنون الكره لأوروبا بأنها محاولات «إعادة انضمام خفية» (إلى الكتلة الأوروبية).
في الواقع، من المرجح أن يتجه ستارمر نحو مواصلة سياسة رئيس الوزراء البريطاني الحالي ريشي سوناك المتمثلة في عقد صفقات تدرجية صغيرة، وعملية ومجزأة. ومن المقرر أن يراجع بصورة رسمية مجدولة مسبقاً، «اتفاق التجارة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة» الساري راهناً، في أواخر سنة 2025 ومطلع 2026، ومن المفترض أن تكون مراجعة تقنية، وليس معاهدة جديدة بالكامل.
إن أي محاولة لإجراء تغييرات أكثر جوهرية، قد تعيد طرح قضايا مثيرة للجدل في السياسة الداخلية البريطانية من نوع مساهمات المملكة المتحدة في موازنة الاتحاد الأوروبي، وحصص صيد الأسماك، والدور الذي تضطلع به «المحكمة الأوروبية»، وجميعها قضايا يرجح أن تظل غير شعبية.
ما العرض الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي؟
يفكر الاتحاد الأوروبي في خطة يقودها في المقام الأول الرئيس الفرنسي ماكرون، وتحمل أسماء مختلفة كـ«بصلة الاتحاد الأوروبي» The EU Onion، أو «الدوائر الداخلية والخارجية» Inner and Outer Circles، أو «الهندسة المتغيرة» Variable Geometry، أو «الجماعة السياسية الأوروبية» European Political Community (EPC) التي جرى إحياؤها من جديد.
وتتطلع هذه الخطة إلى إنشاء أوروبا مركزية، مع دول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، تدور حول محور يهيمن عليه الفرنسيون والألمان، وستلتزم الدائرة الداخلية المتماسكة تحقيق التكامل الكامل والوصول إلى مستوى أعمق من الاتحاد السياسي، في حين قد تتألف الدائرة الخارجية من أعضاء أكثر تشككاً في المنظومة، اختاروا عدم الانضمام إلى اليورو، أو لديهم شكاوى حيال مفوضية الاتحاد الأوروبي كالدنمارك وبولندا والمجر وإيطاليا. وبعد ذلك يأتي الظل الخارجي لـ«منطقة التجارة الحرة الأوروبية» European Free Trade Area القديمة (على غرار الحال مع النرويج وليختنشتاين وأيسلندا وسويسرا). وأبعد من ذلك، ثمة أعضاء طموحون تضم صفوفهم صربيا والمملكة المتحدة.
وسيتسم ذلك النظام بالتعقيد وعدم التناسق. ومثلاً، إن إيرلندا ملتزمة التزاماً كاملاً الموجبات الأوروبية لكنها تحافظ على موقف محايد، وليست جزءاً من «منطقة شنغن». في المقابل، قد تجد بريطانيا نفسها مندمجة في تجمع دفاعي ضمن المنظومة الأوروبية، في حين أن مالطا والمجر، على رغم استخدامهما اليورو، قد لا تشكلان جزءاً منه.
واستكمالاً، تتمثل ميزة هذا النهج في أن الاتحاد الأوروبي «الأساسي» (ألمانيا وفرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ والبرتغال وإسبانيا ودول أصغر في البحر الأبيض المتوسط وأوروبا الشرقية)، قد يتحرك نحو التحول إلى دولة فيدرالية بسرعة نسبية، مع حد أدنى من العناء أو المواجهات. وستظهر أيضاً مجموعة يهيمن عليها لاعبان رئيسان هما فرنسا وألمانيا.
من شأن ذلك السيناريو أن يستمر في السماح للفوائد الاقتصادية والتجارية التقليدية بأن تمتد عبر القارة، كي تشمل الدول الأعضاء الراهنة في الاتحاد الأوروبي، ومختلف الأعضاء المنتسبين، إضافة إلى ذلك، من المحتمل أن يشمل نشوء تجمع دفاعي المملكة المتحدة بوصفها القوة النووية الأخرى في أوروبا.
شهدنا مثل هذا السيناريو في السابق، أليس كذلك؟
أن يعد رئيس وزراء بريطاني آخر بإعادة صياغة الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي لجعله أكثر ملاءمة لبريطانيا؟ نعم، لقد تكرر هذا السيناريو مرات عدة، فقد ظل منطق «قطف الكرز» Cherry-Picking، و«أخذ ما يناسب من الكعكة» Cakeism [انتقاء الشروط المواتية]، من الاستراتيجيات النمطية المتبعة طوال عقود من الزمن.
جرت المحاولة الأولى لإعادة التفاوض في عام 1974، بعد أكثر من عام بقليل على انضمام المملكة المتحدة إلى المنظومة الأوروبية. وقد وعد رئيس وزراء حزب العمال آنذاك هارولد ويلسون، بإجراء «إعادة تفاوض جوهرية» على شروط الدخول التي وافقت عليها حكومة إدوارد هيث المحافظة في عام 1972، حتى إنه ذهب إلى حد التهديد بإجراء استفتاء على الانسحاب إذا لم تلب مطالبه، على رغم إمكانية أن تكون المجموعة الاقتصادية الأوروبية قد اعتبرت ذلك بمثابة خدعة. وكذلك اندرجت حماية منظمة دول الكومنولث وإصلاح السياسة الزراعية المشتركة، ضمن الأولويات المعلنة لبريطانيا.
وفي نهاية المطاف، خرج ويلسون ووزير خارجيته جيمس كالاهان من عملية إعادة التفاوض [مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية] بمكاسب متواضعة نسبياً. وعلى رغم ذلك، اختارا دعم عضوية محدودة في المجموعة خلال استفتاء عام 1975 [من خلال الدعوة إلى بقاء المملكة المتحدة جزءاً منها]، وحققا الفوز.
بعد أربعة عقود من محاولة هارولد ويلسون الفاشلة [التهديد بإجراء استفتاء]، شرع ديفيد كاميرون في مسعى مماثل، إذ قدم تعهدات طموحة، وعاد من أوروبا بصفقة لاقت انتقادات واسعة النطاق. وتمثلت أهم مكاسبها في مراجعة التزام «اتحاد أوثق من أي وقت مضى»، وكبح جماح الهجرة إلى بريطانيا بشكل طارئ. وعلى عكس ويلسون، انتهت رحلة كاميرون بهزيمة، إذ خسر استفتاء عام 2016 على عضوية الاتحاد الأوروبي.
* «شون أوغرايدي»