في ظلال الدستور: سيادة الأمة والملك العضوض والأمر بالطاعة (2-3)
عطفا على مقالي المنشور على هذه الصفحة، تحت العنوان ذاته، في عدد الجريدة الصادر الأحد 17 من الشهر الماضي، والذي تناولت فيه ما ذهب إليه الرأي لدى جمهور العلماء، بتفسير الآية الكريمة، التي يقول فيها المولى عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، من وجوب طاعة الأمة لأولي الأمر، طالما كانوا في طاعة الله ورسوله.
وإن بعض هؤلاء العلماء، وعلى رأسهم أئمة المذاهب الأربعة، «الذين كانوا الأعظم في استنباط الأحكام بتاريخ البشرية كله»، قد تعرضوا للتنكيل بهم وسجنهم، عندما لم تلن لهم قناة أو تضعفهم رغبة أو تثنهم رهبة في كلمة حق قالوها لحكام جائرين ظالمين خلال العصور المتعاقبة بعد فجر الإسلام، وعصر الخلافة الراشدة، حيث تعاقب على الحكم ملك عضوض، اتسم بالاستبداد والظلم، على عكس بعض العلماء الذين زينوا للحكام بأن كل ما يقولونه ويفعلونه في طاعة الله وطاعة رسوله، فأهدروا بذلك الضمانة الحقيقية في إحسان تطبيق هذا التفسير.
وقد أفضى هذا التفسير بإهدار هذه الضمانة إلى الكثير من المفاسد منها:
أولاً: تعطيل فريضة إلهية أمرنا بها الله تعالى في أن يكون الأمر شورى بيننا.
ثانيا: تعطيل فريضة إلهية أخرى، أمرنا الله تعالى فيها بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في الخطاب
السياسي لهذه الفريضة.
ثالثا: إنكار سيادة الأمة التي كان مصدرها الأول هو ما أمرنا الله به تعالى بأن يكون الأمر شورى بيننا، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فلا تخضع الأمة لسلطان الحاكم، بل يخضع هو لسلطانها.
رابعا: مصادرة حرية العقيدة والحريات المتفرعة عنها من حرية شخصية وحرية الرأي وحق التعبير عنه، وحق الاعتراض على الحاكم، وهو ما حدث حتى في عصر النبوة فقد اعترض البعض على بعض ما قرره الرسول عليه الصلاة والسلام، وتجاوز البعض حق الاعتراض المقبول، إلى حد أن خالد بن الوليد استأذن الرسول في أن يضرب عنق أحدهم، فقال له النبي لا، لعله يصلي، فقال خالد، وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال له الرسول: إنني لم أومر أن أنقب القلوب ولم أومر أن أشق قلوبهم.
خامسا: الحكم الاستبدادي الذي خرج على أحكام الإسلام فلم يتحر الحكام أوامر الدين في الرفق بالعباد فأعملوا الظلم فيهم، وتخلوا عن الرحمة، ولم يحسنوا اختيار الولاة، وانحرف الكثير منهم عن الأمانة والنزاهة، سادرين في حياة اللهو والترف والبذخ.
سادسا: التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، بسبب هذا كله، وقد كان للعرب حضارة تفوق الحضارات التي ظهرت قبلهم، وكان لهم فضل على أوروبا كلها.
تفسير النص القرآني
في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...». وفي مجال تفسير هذه الآية، وفقا لأصول التفسير السليم للنصوص وسدا للذرائع، فلا يعزل نص عن غيره من النصوص التي تتنزه عن التعارض أو التهادم أو التنافر، فهي تتكامل في إطار مقاصد القرآن الكريم، نابضة بالحياة بكل زمان ومكان، لا تصد عن التفسير آفاقه الرحبة في أن يلبي حاجات الناس ويواجه مختلف التحديات، ويفترض العمل بأحكام النصوص القرآنية في مجموعها.
فإن مؤدى هذا النص ومفاده سداً للذرائع التي أفضت إلى هذه المفاسد، مع نبل باعث التفسير الآخر، وهو وحدة الأمة واتقاء للفتنة:
• إن خطاب المولى عز وجل في هذا النص موجه إلى الأمة كلها حكاماً ومحكومين، وقد استهلت الآية الكريمة أحكامها بتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا «كافة بما فيهم أولي الأمر».
• ولا استثناء في هذا النص ولا تخصيص لعموم الحكم الوارد فيه أو تقييد لإطلاقه.
• وقد وردت عبارة «وأولي الأمر»، دون أن يسبقها الأمر بالطاعة مثلما جاء قوله تعالى «وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» بعد قوله سبحانه «أَطِيعُوا اللَّهَ»، فإن هذا التكرار للأمر بالطاعة، والذي لم يسبق عبارة «وأولي الأمر منكم»، يكون له دلالة قاطعة على أن مقاصد القرآن الكريم، في سياق هذا النص، هو طاعة أولي الأمر لله ورسوله، وقد خصتهم الآية الكريمة بالذكر لأن طاعتهم لله ولرسوله أوجب وأولى، باعتبارهم القدوة في هذه الطاعة لغيرهم من المؤمنين، وقد قال الله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» كما يقول المولى عز وجل: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً»، لذلك فإن طاعتهم لله ولرسوله ليس صلاحا لأنفسهم فحسب، بل للمؤمنين المخاطبين بنص الطاعة كافة، وقد قال المولى عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».
وفقا لأصول التفسير السليم للنصوص لا يعزل نص عن غيره من النصوص التي تتنزه عن التعارض أو التهادم أو التنافر
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإمارة «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه منها»، ويقول الإمام ابن تيمية في كتابه «السياسة الشرعية»: «على ولاة الأمور أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل».
• ولعل الإعجاز القرآني بأحد وجوهه الكثيرة، هو نظم القرآن وأسلوبه في أداء المعاني التي أرادها الله أن تؤدى للناس، في أسلوب خاص، قصراً على آياته، وقد بلغت ما بلغته من السمو في المعاني وجمال اللفظ وروعة الأسلوب واتساق النظام، ما لم يستطع العرب الذين نزل عليهم القرآن أن يأتوا بمثلها، وهم أهل فصاحة وبراعة في تصريف الكلم، وفي هذا الإعجاز اللغوي ما يعزز تفسيرنا سالف البيان بأن فعلاً حُذف من الآية الكريمة هو «وأخص» أولي الأمر بهذه الطاعة لله، وحذف المعلوم جائز.
وهو ما يقرب النصوص القرآنية إلى بعضها، وهي تتنزه عن التعارض أو التناقض أو التنافر مع قول الله تعالى «وأمرهم شورى بينهم»، وهو ما يجسد الحكم الديموقراطي في أعلى مراتبه، حيث تستمد الأمة سيادتها من هذا النص القرآني، وفيما أمرنا الله به سبحانه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو خطاب سياسي للأمة كلها في إصلاح وتقويم من اختارتهم لحكمها.
وفي هذه المسألة رأي لفضيلة الشيخ عبدالمتعال الصعيدي، وهو واحد من كبار علماء الأزهر المجددين، حيث يقول في كتابه «حرية الفكر في الإسلام»: «إن الأمة مصدر السلطات، فلها حق الاشتراك في نصيب الحاكم الذي تريده حاكما عليها»، وإذا كانت الأمة مصدر السلطات فإن فضيلته يرتب على ذلك أن يكون حاكمها تحت سلطانها، وليست هي تحت سلطانه. (طبع بدار المعارف المصرية سنة 2000 ص34).
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وجدير بالذكر أنه لم يكن لمصطلح الأمة في الغرب وجود قبل القرن الثالث عشر، وقد نزل به القرآن في الشورى في أواسط القرن السادس.
ولعل هذا التفسير يكون سداً لذرائع بترجيح ما يمكن أن يحتمله فهم النص القرآني من تفسير لا يؤدي ولا يفضي إلى هذه المفاسد التي عرضنا لها فيما تقدم بما يحقق مصلحة الأمة، في مواجهة الحياة المتغيرة بطبيعتها في الزمان والمكان.
ولعلي فيما رأيت من تفسير أعملت فيه فكري لم يكن رائدي فيه سوى الصدق والإخلاص لكل الفرائض الإلهية الأخرى، فإن أصبت فحمداً لله على توفيقي، وإن أخطأت فالحق أردت، ولكل امرئ ما نوى وحسبي الله أن أنال عنده ثواب الاجتهاد.
وللحديث بقية في الأساس الشرعي لهذا التفسير من خلال مصادر التشريع في الشريعة الإسلامية ومقومات الحكم في الإسلام.