تعاني السياسة الأميركية فوضى عارمة وخللا وظيفيا لا تخطئه العين، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تتعب أبداً من توبيخ الدول الأخرى بسبب افتقارها للمؤسسات الديموقراطية أو فشلها في حماية القيم الديموقراطية.
وقد ظهر ذلك بجلاء خلال الأسبوع الماضي حينما حثّ الرئيسُ جوزيف بايدن، في الخطاب الذي ألقاه على الجمعية العامة للأمم المتحدة، الدول الأخرى على الانضمام إلى الولايات المتحدة في الدفاع عن الديموقراطية في أوكرانيا، ثم أثناء لقائه مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انتقد بايدن بشكل معتدل جهودَ الزعيم الإسرائيلي لإضعاف السلطة القضائية في ذاك البلد.
وبينما نواصل دعوة الدول الأخرى إلى الدفاع عن الديموقراطية وقيمها، تُظهر دراسة حديثة أجراها مركز «بيو» للأبحاث أن ثقة الأميركيين في نظامنا السياسي تدنت إلى مستويات منخفضة بشكل خطير، ولأسباب وجيهة، فالكونغرس يعاني الشلل بسبب الحزبية المفرطة، والأيديولوجيين العنيدين، والقواعد المعقدة والغامضة التي تسمح بالسلوك المعرقل وتشجِّع عليه.
وفي مجلس النواب، بات رئيس مجلس النواب «الجمهوري» رهينةً في أيدي حفنة من المتشددين الذين تعهدوا بالامتناع عن الإدلاء بأصواتهم لتمرير ميزانية «جمهورية» للغاية ما لم يستجب لمطالب إجراء خفض أكبر للإنفاق المحلي والمساعدات الخارجية.
ونتيجة لذلك باتت الولايات المتحدة تواجه مرة أخرى شبح إغلاق الحكومة الفدرالية، ويمتلك «الديموقراطيون» سيطرة اسمية فقط (51-49) على مجلس الشيوخ الأميركي، لكنهم يواجهون مشاكل من اثنين من السيناتورات اللذين يصفان أنفسهما بـ«المستقلين»، واللذين لا يمكن ضمان صوتيهما أبداً، وكذلك من القواعد التي تسمح لعضو في مجلس الشيوخ بـ«عرقلة» الترشيحات الرئاسية بغض النظر عن مؤهلات المرشحين.
ويذكر هنا أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ عرقل 200 ترقية وتعيين عسكري بسبب خلاف مع سياسة البنتاغون بشأن الإجهاض، والأكيد أنه بعد أن عرقل «الجمهوريون» النظر في إمكانية قبول مرشح الرئيس أوباما للمحكمة العليا- موافقين لاحقاً على مرشح الرئيس ترامب- ومُنحوا فرصة منصب آخر بسبب رفضِ قاضٍ مسن الاستقالة قبل فوات الأوان حتى يتسنى لأوباما ملء مقعده، اتخذت المحكمة مواقف محافظة بشأن الفصل بين الكنيسة والدولة، والإجهاض، والقوانين البيئية.
ولئن كان ما يناهز ثلثي الناخبين يعبِّرون عن استيائهم من احتمال إعادة التنافس بين بايدن وترامب، فإن كلا الحزبين يبدو أنهما متجهان نحو إعادة ترشيحهما في عام 2024، على أن المشاكل لا تنتهي عند هذا الحد، فمع الانهيار الكامل لأنظمة تمويل الحملات الانتخابية، باتت انتخاباتنا والعملية السياسية برمتها تخضع على نحو متزايد لسطوة المليارات التي يجمعها الحزبان ولجان العمل السياسي ومجموعات المصالح التابعة للشركات من أجل دفع أجور المستشارين ونفقات الحملات الإعلانية السلبية الضخمة التي تؤجج الاستقطاب وتلوِّث المياه السياسية.
أضف إلى ذلك المشاكل المماثلة التي تواجهها حكومات الولايات والسُلطات المحلية، ووسائل الإعلام الكبرى المتحيزة التي لم تعد تنقل الأخبار وإنما تصوغها وفقاً لأجنداتها السياسية، فتصبح أمام مزيج سام من الخلل الوظيفي الناجم عن الاستقطاب المتزايد، والواقع أن ما ذكرناه أعلاه لا يصف سوى بعض المشاكل التي تواجه المؤسسات الكبرى التي عملت في الماضي على تأمين الديموقراطية في الولايات المتحدة، وبالتالي فلا غرو أن تجد دراسة مركز «بيو» الأخيرة أن الأميركيين فقدوا الثقة في سياسات البلاد ومؤسساتها، وتشمل النتائج التي توصل إليها المركز ما يلي:
• 4% فقط من المستجوَبين يقولون إن النظام السياسي الأميركي يعمل بشكل جيد في حين يعبِّر 63% عن ثقة قليلة أو منعدمة في مستقبل السياسة الأميركية.
• 56% غير راغبين أو غير قادرين على تحديد أي نقاط قوة في النظام السياسي الأميركي.
• 65% يشعرون بالإرهاق دائماً أو في كثير من الأحيان حينما يفكرون في السياسة، و78% نادراً ما يكونون متحمسين للسياسة أو لا يتحمسون لها على الإطلاق، في حين تبدو الأغلبية غير متفائلة.
• حينما طُلب منهم تحديد مشاعرهم تجاه نظامنا السياسي استخدم 2% فقط مصطلحاً إيجابياً، في حين استخدم 79% مصطلحات سلبية مثل «مثير للانقسام» أو «فاسد» أو «فوضوي» أو «فوضى».
• يقول أكثر من 80% إن تكلفة الحملات السياسية مرتفعةٌ للغاية لدرجة أنها تمنع الأشخاص الجيدين من الترشح وتمنح كبار المانحين وجماعات الضغط نفوذاً أكبر مما ينبغي، ويختتم مركز «بيو» دراسته بمطالبة الناخبين بتقييم عدد من الأفكار التي من شأنها إصلاح السياسة، ومن بين المقترحات التي تحظى بقدر كبير من التأييد بينهم هناك فرض حد أقصى لعدد ولايات أعضاء الكونغرس، وفرض حد أقصى لعمر المسؤولين المنتخَبين وقضاة المحكمة العليا، وفرض حد أقصى لحجم الإنفاق على الحملات الانتخابية، سواء من الأفراد أو المجموعات، واشتراط الإدلاء بوثيقة هوية تحمل صورة وتكون صادرة عن الحكومة من أجل التصويت.
لكن احتمالات نجاح وتمرير هذه المقترحات تظل ضئيلة نظراً لضرورة إقرارها من قبل الكونغرس، وتوقيع الرئيس عليها، وإقرارها دستورياً من المحكمة العليا، ولهذا فإن الخلل الوظيفي الذي يعانيه نظامنا السياسي سيستمر، مما يترك الناخبين بعيدين عن السياسة، أو محبَطين وعرضة للاستغلال من قبل الديماغوجيين الذين على شاكلة ترامب، والآخرين يأملون التغيير رغم صعوبته، ولكنهم غير متأكدين من كيفية حدوثه وما إن كان سيكون للأفضل أو للأسوأ.
* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.