استعدت من الذاكرة مقولة أستاذ الأجيال القانونية في الوطن العربي كله د. عبد الرزاق السنهوري يقول فيها: «ليس القانون الذي يظلمنا ولكننا نظلم القانون»، تذكرت هذه المقولة، عندما تغيب الدور المهم للجنة التشريعية والقانونية لمجلس الأمة، في الرقابة التي يبسطها المجلس على دستورية القوانين وعلى ملاءمة التشريع في ضوء البناء القانوني للدولة ككل، في التعديل الذي أقره مجلس الأمة أخيراً والذي يقضي بإحالة الاقتراحات بقوانين التي يقدمها أعضاء مجلس الأمة إلى اللجان المتخصصة، أسوة بمشروعات القوانين المقدمة من الحكومة، التي تحال مباشرة إلى هذه اللجان.
وكانت اللائحة الداخلية، قبل التعديل المقترح تنص على إحالة الاقتراحات بقوانين المقدمة من الأعضاء إلى لجنة الشؤون التشريعية والقانونية، والتي تختص بالجانب القانوني في أعمال مجلس الأمة، وبعد أن تبدي هذه اللجنة رأيها في فكرة الاقتراح بقانون المقدم من الأعضاء ووضعه في الصيغة القانونية ترفع تقريرها في هذا الشأن إلى الرئيس الذي يحيله إلى اللجنة النوعية المتخصصة سواء الداخلية والدفاع أو المالية والاقتصادية، أو التعليم والثقافة أو الخارجية أو المرافق أو لجنة الميزانيات.
ولعل هذه المغايرة في أحكام اللائحة الداخلية- قبل هذا التعديل- ترجع إلى أن الحكومة لها من الأجهزة القانونية، ما يعينها على دراسة مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة، بما يغني عن العرض على اللجنة التشريعية في مجلس الأمة، فضلاً عن عرض هذه المشروعات على اللجنة التشريعية في مجلس الوزراء.
ولأهمية الدور الذي تقوم به هذه اللجنة، في دراسة الاقتراحات بقوانين المقدمة من الأعضاء من الناحية الدستورية والملاءمة التشريعية، فضلا عن اختصاصها النوعي بوزارتي العدل والأوقاف وإدارة الفتوى والتشريع، كانت هذه اللجنة الأكثر عدداً من كل اللجان.
القانون في إجازة
قالها في آواخر الستينيات من القرن الماضي محافظ القاهرة السيد سعد زايد، عندما سأله أحد الصحافيين عن مدى موافقة الإجراءات التي اتخذها في المحافظة لأحكام القانون، باحتجاز ملاك العقارات المبنية الذين تقاضوا من المستأجرين خلوات رجل، إلى أن يردوها إليهم، فأجاب بأن القانون في إجازة، وكانت هذه المقولة محور مقال لي نشر في 2/2/1972 في صحيفة «أخبار اليوم» المصرية تحت عنوان «سيادة القانون واستقلال القضاء»، أعيد نشره وقد فقد القانون بريقه، مع الأحداث المتسارعة في العالم، بحيث أصبح القانون في بعض البلاد من قبيل الرفاهية.
سيادة القانون واستقلال القضاء
اللهم لا شماتة بل عبرة وتذكير، لم يكن هذا القول أصدق منه في الحكم الذي أصدرته محكمة أمن الدولة العليا ببراءة سعد زايد مما نسبته إليه النيابة العامة من تهمتي الإضرار بأموال الدولة والكسب غير المشروع، وانبنى الحكم الصادر بالبراءة على عدم توافر الأركان القانونية اللازمة للمساءلة الجنائية.
ولعل أحداً لم يفاجأ بصدور هذا الحكم مثلما فوجئ سعد زايد نفسه به، فهو الذي استباح لنفسه يوما وهو في مركز القوة أن يعطي القانون إجازة معلنا ذلك على الملأ في زهو وخيلاء، وهو الذي أحل إرادته محل إرادة القضاء وحال بين الناس وبين قاضيهم الطبيعي منتحلا لنفسه كل السلطات من تشريعية وقضائية وتنفيذية، وهو الذي أغضبه أن يصدر يومها حكم لمحكمة القضاء الإداري لمجلس الدولة برئاسة المستشار الدكتور د. ضياء الدين صالح نائب رئيس مجلس الدولة في السادس من فبراير 1968 بإلغاء قرار أصدره السيد محافظ القاهرة بإغلاق أحد محال الفاكهة وإلغاء الترخيص الصادر له، يومها قال مجلس الدولة لمن كان يمثل أحد مراكز القوى في بلادنا إن القرار قد بني على غير سند من القانون، وصدر متجاوزا حدود الاختصاصات المخولة للجهات الإدارية في شأن إلغاء رخص المحال التجارية وغلقها إداريا، وأنه لا يجوز لأية سلطة إدارية أن تقرر لنفسها اختصاصا معينا لم يمنحه لها القانون.
""استقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات ويجب أن نحشد كل الضمانات لدعم هذا الاستقلال
ولعل السيد سعد زايد حين استرجع الماضي القريب، بكل ما حواه من أسرار وأخبار، وحين شاهد الحاضر بكل إشراقه، قد تحركت شفتاه بكلمات الندم والاستغفار، أمام مبدأ أنكرته النفس الأمارة بالسوء يوما حين كانت غلابة قوية، طاغية متمردة، ولكن تلك النفس أفاقت على صوت المبدأ ذاته يهزها من الأعماق، وهي في مركز الضعف، معذبة فيما تصدره من العبرات والأنات، ليقول لها، إنني أنا ملاذك أيتها النفس مستضعفة، ومفزعك خائفة، أنا كافل الحريات وحامي الحقوق، أنا سيادة القانون.
لقد تمخض كل من الحكمين، الحكم الذي أصدره مجلس الدولة ضد سعد الزايد وهو في مركز القوة والحكم الذي أصدره القضاء الجنائي لصالحه وهو في مركز الضعف دروسا بينات وآيات مفصلات في مبدأ سيادة القانون، وأن هذا المبدأ لا يعرف ضعفا أو قوة، حيث يخضع الحاكم للقانون، مثلما يخضع سائر الناس.
وليس هذا ما نستخلصه من الحكمين فقط، ولكن هذين الحكمين يقدمان دليلا كل يوم الذي لا يرقى إليه شك أبدا على نزاهة القضاء قي بلادنا، فهو لم يمالئ من كان في مركز القوة، وهو لم يعرف الانتقام إذ قضى ببراءته وهو في مركز الضعف، متمثلا في ذلك كله قول عمر بن الخطاب في رسالته الى أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة «إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وأس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع الشريف في حيفك، ولا يبأس ضعيف من عدلك، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس».
كما أن ذلك ينبه إلى حقيقة هامة هي أن استقلال القضاء وحصانته هما ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، وأنه يجب أن نحشد كل الضمانات لدعم هذا الاستقلال بسطا لمبدأ سيادة القانون وتأكيدا لسلطانه، ليكون (التقاضي) حقاً مصوناً ومكفولاً للناس كافة، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وتكفل الدولة سرعة الفصل في القضايا، ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
وكانت اللائحة الداخلية، قبل التعديل المقترح تنص على إحالة الاقتراحات بقوانين المقدمة من الأعضاء إلى لجنة الشؤون التشريعية والقانونية، والتي تختص بالجانب القانوني في أعمال مجلس الأمة، وبعد أن تبدي هذه اللجنة رأيها في فكرة الاقتراح بقانون المقدم من الأعضاء ووضعه في الصيغة القانونية ترفع تقريرها في هذا الشأن إلى الرئيس الذي يحيله إلى اللجنة النوعية المتخصصة سواء الداخلية والدفاع أو المالية والاقتصادية، أو التعليم والثقافة أو الخارجية أو المرافق أو لجنة الميزانيات.
ولعل هذه المغايرة في أحكام اللائحة الداخلية- قبل هذا التعديل- ترجع إلى أن الحكومة لها من الأجهزة القانونية، ما يعينها على دراسة مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة، بما يغني عن العرض على اللجنة التشريعية في مجلس الأمة، فضلاً عن عرض هذه المشروعات على اللجنة التشريعية في مجلس الوزراء.
ولأهمية الدور الذي تقوم به هذه اللجنة، في دراسة الاقتراحات بقوانين المقدمة من الأعضاء من الناحية الدستورية والملاءمة التشريعية، فضلا عن اختصاصها النوعي بوزارتي العدل والأوقاف وإدارة الفتوى والتشريع، كانت هذه اللجنة الأكثر عدداً من كل اللجان.
القانون في إجازة
قالها في آواخر الستينيات من القرن الماضي محافظ القاهرة السيد سعد زايد، عندما سأله أحد الصحافيين عن مدى موافقة الإجراءات التي اتخذها في المحافظة لأحكام القانون، باحتجاز ملاك العقارات المبنية الذين تقاضوا من المستأجرين خلوات رجل، إلى أن يردوها إليهم، فأجاب بأن القانون في إجازة، وكانت هذه المقولة محور مقال لي نشر في 2/2/1972 في صحيفة «أخبار اليوم» المصرية تحت عنوان «سيادة القانون واستقلال القضاء»، أعيد نشره وقد فقد القانون بريقه، مع الأحداث المتسارعة في العالم، بحيث أصبح القانون في بعض البلاد من قبيل الرفاهية.
سيادة القانون واستقلال القضاء
اللهم لا شماتة بل عبرة وتذكير، لم يكن هذا القول أصدق منه في الحكم الذي أصدرته محكمة أمن الدولة العليا ببراءة سعد زايد مما نسبته إليه النيابة العامة من تهمتي الإضرار بأموال الدولة والكسب غير المشروع، وانبنى الحكم الصادر بالبراءة على عدم توافر الأركان القانونية اللازمة للمساءلة الجنائية.
ولعل أحداً لم يفاجأ بصدور هذا الحكم مثلما فوجئ سعد زايد نفسه به، فهو الذي استباح لنفسه يوما وهو في مركز القوة أن يعطي القانون إجازة معلنا ذلك على الملأ في زهو وخيلاء، وهو الذي أحل إرادته محل إرادة القضاء وحال بين الناس وبين قاضيهم الطبيعي منتحلا لنفسه كل السلطات من تشريعية وقضائية وتنفيذية، وهو الذي أغضبه أن يصدر يومها حكم لمحكمة القضاء الإداري لمجلس الدولة برئاسة المستشار الدكتور د. ضياء الدين صالح نائب رئيس مجلس الدولة في السادس من فبراير 1968 بإلغاء قرار أصدره السيد محافظ القاهرة بإغلاق أحد محال الفاكهة وإلغاء الترخيص الصادر له، يومها قال مجلس الدولة لمن كان يمثل أحد مراكز القوى في بلادنا إن القرار قد بني على غير سند من القانون، وصدر متجاوزا حدود الاختصاصات المخولة للجهات الإدارية في شأن إلغاء رخص المحال التجارية وغلقها إداريا، وأنه لا يجوز لأية سلطة إدارية أن تقرر لنفسها اختصاصا معينا لم يمنحه لها القانون.
""استقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات ويجب أن نحشد كل الضمانات لدعم هذا الاستقلال
ولعل السيد سعد زايد حين استرجع الماضي القريب، بكل ما حواه من أسرار وأخبار، وحين شاهد الحاضر بكل إشراقه، قد تحركت شفتاه بكلمات الندم والاستغفار، أمام مبدأ أنكرته النفس الأمارة بالسوء يوما حين كانت غلابة قوية، طاغية متمردة، ولكن تلك النفس أفاقت على صوت المبدأ ذاته يهزها من الأعماق، وهي في مركز الضعف، معذبة فيما تصدره من العبرات والأنات، ليقول لها، إنني أنا ملاذك أيتها النفس مستضعفة، ومفزعك خائفة، أنا كافل الحريات وحامي الحقوق، أنا سيادة القانون.
لقد تمخض كل من الحكمين، الحكم الذي أصدره مجلس الدولة ضد سعد الزايد وهو في مركز القوة والحكم الذي أصدره القضاء الجنائي لصالحه وهو في مركز الضعف دروسا بينات وآيات مفصلات في مبدأ سيادة القانون، وأن هذا المبدأ لا يعرف ضعفا أو قوة، حيث يخضع الحاكم للقانون، مثلما يخضع سائر الناس.
وليس هذا ما نستخلصه من الحكمين فقط، ولكن هذين الحكمين يقدمان دليلا كل يوم الذي لا يرقى إليه شك أبدا على نزاهة القضاء قي بلادنا، فهو لم يمالئ من كان في مركز القوة، وهو لم يعرف الانتقام إذ قضى ببراءته وهو في مركز الضعف، متمثلا في ذلك كله قول عمر بن الخطاب في رسالته الى أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة «إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وأس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع الشريف في حيفك، ولا يبأس ضعيف من عدلك، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس».
كما أن ذلك ينبه إلى حقيقة هامة هي أن استقلال القضاء وحصانته هما ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، وأنه يجب أن نحشد كل الضمانات لدعم هذا الاستقلال بسطا لمبدأ سيادة القانون وتأكيدا لسلطانه، ليكون (التقاضي) حقاً مصوناً ومكفولاً للناس كافة، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وتكفل الدولة سرعة الفصل في القضايا، ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.