رياح وأوتاد: عندما تصيح الحكومة «ولات حين مناص»
أصدر مجلس الخدمة المدنية بناء على توجيه الحكومة تعديلاً على قرار بيع الإجازات الذي كان قد صدر بدون ضوابط بضغط من المجلس، فسمح القرار الجديد ببيع شهر واحد فقط من الإجازات كل عشر سنين، وهو يعد تصحيحاً انقلابياً على القرار الحكومي السابق الذي كلف مليار دينار في سنة تقريباً.
وتبحث الآن الحكومة تصحيح قرارات أخرى مغلوطة، مثل قرارات المعاشات الاستثنائية، وقرارات الكوادر الكبيرة، التي تسببت في التفاوت الهائل في مرتبات الموظفين، ولا شك أن هذا التصحيح سيكون له كلفة إضافية بمئات الملايين لمعالجة الخطأ السابق، سواء كانت المعالجة المطلوبة عن طريق الزيادة للموظفين والمتقاعدين أو عن طريق البديل الاستراتيجي، خصوصاً أن الحكومة اكتشفت الآن أنه لا بد من زيادة مبالغ دعم العمالة في القطاع الخاص كي لا تتسبب أي زيادة حكومية في هجرة العاملين الكويتيين من القطاع الخاص إلى العام إذا تمت زيادة القطاع العام وحده.
وهكذا دائما لا تقوم الحكومة بالدراسة الكافية للقرارات المالية وتستسلم لضغوط المجلس، ربما لأسباب سياسية، وعندما تتبين آثارها بصرف المليارات صرفاً جارياً وعدم تحقيق العدالة تصيح الحكومة، ويصيح الجميع (ولات) ولكن (حين مناص)، أي لا ينفع الندم والصياح بعد فوات الأوان.
وإذا نظرنا إلى بعض قرارات الصرف المالية التي أصدرتها الحكومة من تلقاء نفسها أو بناء على ضغط المجلس ومقارنتها بقيمة المشروعات حسب ما زودني به بعض المسؤولين في الجهات المعنية، فسنجد أن قيمتها كانت كافية لحل مشكلات كبيرة يعانيها الشعب الكويتي، فمبلغ المليار دينار الذي دفع لبيع الإجازات كان كافياً لبناء محطة كهرباء بقوة 3000 كيلوواط تقوم بتزويد الكهرباء لآلاف القسائم المتعطلة في المطلاع وجنوب سعد العبدالله، أما دفع الفوائد لتأجيل القروض خلال وباء كورونا الذي كلف بين 400 و500 مليون فقد كان كافياً لتزويد 20 منطقة بحجم منطقة القادسية (التي تحتوي على أكثر من 1000 بيت) بالشوارع وتمديدات المجاري ومياه الأمطار، أي كانت كافية لحل مشكلة الشوارع والبنية التحتية لنحو 20 ألف عائلة، أو لتجهيز 20 ألف قسيمة صناعية صغيرة ومتوسطة بالخدمات نفسها ليعمل بها آلاف من الشباب عملاً صناعياً أو حرفياً أو تجاريا بدلاً من انتظار الوظيفة الحكومية غير المنتجة لمدة سنتين أو أكثر.
وإذا أضفنا إلى قيمة بيع الإجازات وتأجيل فوائد القروض مبلغ التجاوز الذي تم صرفه للصفوف الامامية والذي وصل مع القيمة الأصلية للقرار إلى نحو 600 مليون، فسنجد أن المجموع كان كافياً لبناء مصفاة نفطية بسعة 200 ألف برميل يومياً مع مصنع بتروكيماويات ملحق بها، بقيمة لا تقل عن ثلاثة مليارات وتوظف مئات الكويتيين وتدر ملايين الدنانير على الاقتصاد والمالية العامة، وتساهم في حل مشكلة 38 ألف متقاعد الذين تبلغ معاشاتهم أقل من ألف دينار.
وبهذه المقاييس نفسها يمكن دراسة الهبات الحكومية الخارجية والاستثمار السياسي في دول لا جدوى من الاستثمار فيها.
الخلاصة أن من الضروري أن تدرس الحكومة الاقتراحات المالية دراسة علمية وفنية مع نظرة للمستقبل وعندها ستكتشف أنه بالمبالغ نفسها التي يطالب بها بعض الأعضاء ويستفيد منها أشخاص معينون يمكن بواسطتها الحصول على وضع معيشي أفضل للجميع وحل مشكلة التوظيف لآلاف الشباب وتوفير الكهرباء لآلاف المنازل، وقدر كبير من التقدم في مشكلة الإسكان، وتحقيق إيراد جيد من الإنفاق الرأسمالي للبلاد بدلاً من التذرع بالعجز «حين مناص».
أحد زملائنا في المجالس السابقة سأل: «هل يعقل أن تكون ميزانية اليابان 10 أضعاف ميزانية الكويت فقط علماً أن عدد اليابانيين يعادل 80 ضعف عدد الكويتيين، وقال إن هذا غير معقول، لذلك يجب اعتبار هذا جرس إنذار وعلينا إصلاح هدا الوضع؟».
ورغم مرور سنوات على هذا السؤال فإن الوضع ازداد سوءاً وتفاقماً.