«اللي فتحوا باب الوجع يقفلوه»
وكأنهم قد عاهدوا أنفسهم أن يدفعوك إلى حدودك القصوى أو يستفزوك حتى آخر قطرة من صبرك أو صبرنا جميعا، كلما قلت إنك جالس هناك في أقصى زاوية في الغربة بين روحك ونفسك وبعض ماء البحر وما تبقى من الأحبة بعد رحيل الكثيرين، اقتحموا تلك المساحة اللا مرئية واللا إشكالية أو صدامية التي أبقيتها أنت بإرادتك، أو ربما ببعض ما تصورت أنه نضج يفرضه العمر وسنوات الخبرة وكثير من التعب والملل.
عندما كانوا يقولون لك وأنت شابة قادمة من زحمة قلب اللحظة، أو هكذا تصورتِ حينها «إذا ما يعجبك روحي بلطي البحر»، كانت ضحكتك تصل إلى ما بعد الموجة الأخيرة لأنك، ونحن، كنا نتصور أن البحر لا يبلط، سذجاً كنا وها هو البحر يبلط، بل يتحول إلى مبان شاهقة وعمارات بزجاج وبيوت ممتدة، حتى أن الموجة رحلت مع آخر نورس كان يلتقط وجبته اليومية من ذاك البحر نفسه.
وتتصور بسذاجة أيضا أننا قد نختلف في الكثير من الأمور حتى نتصادم أحيانا، إلا أنك لا تتصور أن ما تم الاتفاق عليه كثقافة أو ممارسات يومية مشتركة لن تتغير حتى يدخل عليك أصغر أفراد العائلة أو أصغرهم في مكان العمل أو الشاب اليافع القادم من تلك الجامعة العريقة التي راكمت خبرة وتعليما من أول من أسسها مروراً بأجيال وأجيال، يدخل ليلقنك درسا في المعرفة والفهم الحديث بناء على نظريات كثير منها نيوليبرالية أو حتى تلك المرتبطة بثقافة مختلفة جداً عن ثقافتك وثقافة محيطك الواسع، ولا ينسى أن يلوي لسانه بعض الشيء بالإنكليزية أو الفرنسية ليثبت أنه أكثر معرفة وعلماً و... و...!!!
تعيد التذكير بتلك الثقافة أو لنسمها الإحساس العام المتفق عليه حتى يفتح ذاك الرجل شباك سيارته ويرمي قشر الموز وعلب المشروبات من نافذة سيارته التي خرجت رؤوس أطفالها من الشبابيك وهو مبتسم بل سعيد جدا بهم وبه!!! يدخل البعض مساحات من الاكتئاب في البحث عن ذاك المتفق عليه الذي بدأ يتلاشى بشكل سريع.
قديماً قال أهلنا «أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة»، أو ربما هي سنون، الآن كل من يتقن لغة أو يستشرق بعض الشيء أو يردد نظريات بعيدة أو حتى يفوز برضاء نخبة الموضة أو الثقافة الغربية، قد وصلوا لأعلى درجات الفهم، ويتم وضعهم على منصات تبدو ببريقها مغرية رغم أنها من ورق.
كثيرون ينغمسون في الحشد وهم علمونا أن «الحشد مع الناس عيد» حتى علمتنا الأيام بسمواتها الداكنة أن الحشد ليس عيداً أبداً ولا يأتي في الكثير من الأحيان بالفرح ولا النمو أو حتى الاستقرار... بعدت المسافات بين الحشد والناس بتأوهاتهم اليومية ومعاناتهم البسيطة حتى الموت، هناك حالة من الفصام الجماعي تطاردك، أو ربما هي حالة خاصة جداً، فكلما زاد الوجع بكثير من الاستكانة البلهاء أو الخائفة أو التائهة أو حتى الاستكانة الناتجة عن غرور شديد كمن يقول «أنا المعرفة وأمها وأنتم مجرد قطعان من الجهل»!
كثيرون من محدثي التعليم والمنصب والمعرفة، نعم هناك محدثو العلم كمحدثي المال والثروة، يتصورون أو يخال لهم أنهم قادرون على تلقينك دروساً يومية ليس في حاضرك فقط، بل في مستقبلك وماضيك أيضا، يرددون عليك ما الذي استفدته من انغماسك في واقعك ومحيطك ومبادئك، انظر حولك ما الذي فعله ذاك بك الآن وأنت لست في منتصف العمر، بل في المنعطف الأخير منه وأحبتك يتساقطون الواحد والواحدة تلو الأخرى، حتى تمنيت أن يوصد باب الوجع هذا أو يقفل مؤقتا أو حتى إشعار آخر.
عندما تستطيع أن تعيد ترتيب تلك الأوراق والمشاعر المبعثرة وتعترف بأنه ربما خلل فقط أو مرحلة رغم أنك تعرف حتما أن البحر الذي بلط ستهجره أمواجه وأسماكه وكل ساكنيه، وأن المحبة عندما تتحول إلى دفاتر حسابات مرتبطة بكم مرة سألت عليّ لأسأل عليك وعنك، أو كم مرة قدمت لي خدمة لأعيدها لك، حينها يبدو أنه حان وقت أن توصد الباب بإحكام حتى لا تصاب بذلك الفيروس الأكثر خطراً مما سبقه، وما سيأتي أو ما يتم تصنيعه الآن!!!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية