لا تقوم قائمة لوطن لا ينال فيه المواطن حقوقه ولا يضمن العيش بأمان وسكينة، ولا تستمر أي دولة من غير سيف القضاء وسطوة الأمن، عكس ذلك يعني الفوضى، ويعني الانهيار، وبالتعبير الشامي يصبح المجتمع عالقاً في دوامة «حارة كل مين إيدو ألو»!
يسود الأمن «بالتراضي» عندما يقوم مسؤول سياسي أو قائد أمني، تحت وطأة العجز وقلة الحيلة، وبهدف المحافظة على ما تبقى من هيبة للدولة ودور لأجهزتها الرسمية، بتنصيب نفسه «شيخ صلح» ينحصر دوره فيما يبذله من جهود توفيقية بين متقاتلين ينتهكون علناً كل القيم والأحكام القانونية والدينية والأخلاقية والوطنية، ويكون ذلك أيضاً عندما تدخل القوى العسكرية أو الشرطية المولجة بضبط الأمن والقبض مع مخالفي القانون بمفاوضات تنتهي عادة لمصلحة الفارين من وجه العدالة!
ويصبح القضاء «بالتغاضي» عندما يشيح القضاء وجهه عن الجرائم والمجرمين تحت عباءة الاسترزاق أو الاستسلام أو التهرب من المسؤولية، وعندما يصبح التلويح بعصا المقاضاة أو استخدامها ورقة ضغط على طاولة اللعب السياسي، فكيف للعدالة أن تتجلى عندما تتحكم يد السياسة والانتماء الطائفي والمناطقي والحزبي بتعيين القضاة وحركة تنقلاتهم وترقياتهم؟ وكيف للحقيقة أن تسطع حين يمسك السياسي بمقبض التحكّم بالملفات القضائية الحساسة والمهمّة؟ وكيف للثقة بالقضاء أن تستمر عندما يكون رؤساء وأعضاء المجالس والمحاكم العليا أداة بيد طبقة تمتهن الإذلال وتبني أمجادها على التبعية!؟
الحسنة الوحيدة للأمن «بالتراضي» أنه- ورغم حجم خطورته- يُبقي على الحد الأدنى من وجود «الدولة» وإن كان وجود أجهزتها ومؤسساتها أقرب الى شهادة الزور وحضور الأطرش لزفّة العرس، إلا أن «التغاضي» المتعمّد والمدروس يجعل الأمن والقضاء وبالتالي الدولة في غيبوبة تامة من شأنها تكريس قوة «الأمر الواقع» ومحو ما تبقى من ثقة للمواطن بالسلطة وأجهزتها.
***
البيئة المثلى للأمن «بالتراضي» والقضاء «بالتغاضي» هي كل مجتمع منقسم على نفسه، مفككّ في أواصره، ومتنازع حتى على مصالحه الجماعية التي من المفترض أن تكون نقط التقاء لكل مكوناته... ولعلّ الحالة اللبنانية هي الأكثر وضوحاً في هذا السياق رغم تشابهها في كثير من الأوجه وفي عديد من المحطات مع غيرها من الحالات التي تلتقي معها بتعقيدة المكونات وتعدد الآفات.
الخطير في لبنان أن «التراضي» تحوّل منذ فترة ليست بقصيرة الى «تغاض» تقاعست بموجبه السلطات والأجهزة المختصة عن القيام بواجباتها الطبيعية، فلا تتحرك في الملفات الكبرى إلا تحت سقف ما سمي «الغطاء السياسي»، ولا تكشف عن أنيابها بوجه مرتكب خطير ما لم تضمن ردة فعل عشيرته أو طائفته أو حزبه السياسي!
الأمثلة كثيرة وعديدة، تبدأ من ملف انفجار مرفأ بيروت، الى عشرات الاغتيالات السياسية، مروراً بفضيحة سرقة أموال المودعين ومتاهة التحقيقات مع الحاكم السابق للمصرف المركزي، وليس انتهاء بالأحداث الأمنية المتنقلة من «عين الرمانة» الى «كوع الكحّالة» التي لكل من أطرافها روايته ومبرراته وخطوطه الحمراء التي يفردها بوجه الدولة ويفرضها على أجهزتها الأمنية والقضائية التي عادة ما يرضخ القيمون عليها تحت شعار «دقة الأوضاع» ومبررات الحفاظ على «السلم الأهلي».
لا يجاهر كثير من مكونات الطبقة السياسية بارتكاباتهم المخزية بحق الوطن والمواطنين والدولة، فيجمّلون تدخلهم الفاضح وتأثيرهم الواضح في القضاء والأمن باستخدام عبارات يرددّها كثير من أتباعهم وأبواقهم الإعلامية، إذ «نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد» و«حفاظاً على العيش المشترك» يبرر اغتصاب الحق وتشويه الحقيقة، وأخذاً بـ«الاعتبارات الجيوسياسية والمتغيرات الاقليمية والدولية» تنتهك حرمة الأمن وتجمّل شريعة الغاب، و«منعاً لانزلاق الوضع الاقتصادي والاجتماعي الى مزيد من التدهور» يسمح للميليشيات والأحزاب وزعماء الطوائف وقادة القوى السياسية بالحلول محل أجهزة الدولة الرسمية في كل صغيرة وكبيرة!
لا شك أن كل هذه «الكليشيهات» التي بررت قهر المواطن المغلوب على أمره لعشرات السنين أصبحت ممجوجة، كما أنها لم تعد مجدية لإقناعه بأنها ستبني دولة أو تحافظ على كيان أو أنها ستؤمن له حقاً ضائعاً وعدالة مفقودة، فلبنان «الفكرة والحلم» لا يتفق مع لبنان الفساد العابر لكل الطوائف والتقسيمات المناطقية والحزبية، ولبنان «الكيان» لن يستمر بحكم مترهل ودولة غائبة، ولبنان «الوطن» لا يبنيه مواطن ساكت أو شريك في جعل الأمن والقضاء هدفاً وأداة للتسييس وبالتالي مدعاة للتشكيك.
***
إن سقوط الدولة بهبوط حرّ من «سيادة القانون» الى هاوية الأمن «بالتراضي» ومن ثم الى خطيئة الحكم والقضاء«بالتغاضي»، هو أخطر ما تصل اليه المجتمعات والأوطان، مهما علا شأنها أو زادت مقدراتها أو ظنت نفسها محصنة بتاريخ عريق وماض مشرّف.
* كاتب ومستشار قانوني