من الأقدار اللافتة أن يلتصق الرقمان (1) و(3) بالمفاصل الكبرى لمسيرة العماد ميشال عون، الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية، وأن يعبّر تبدّلهما في الموقع عن التقلّبات التي شهدتها مسيرته المذكورة باختلاف المواقف والمواقع التي التصقت باسم العماد.
في منتصف ليل 31 أكتوبر 2022 انتهت الولاية الدستورية للعماد الرئيس بعد أن غادر قصر «بعبدا» قبل يوم من هذا التاريخ لتمكين مناصريه من مرافقته- يوم العطلة الأسبوعية- من مقر الرئاسة الى السكن المخصص لإقامته في منطقة «المطيلب بالرابية» حيث يقع منزله الحديث الذي ثار جدل حول تاريخ انتهائه وتكاليفه.
وفي ليل 13 أكتوبر 1990 انتهت حالة التمرّد التي تزعّمها العماد نفسه- رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة آنذاك- بفراره من ضربات الجيش السوري وحلفائه اللبنانيين، مغادراً القصر نفسه إلى سفارة الجمهورية الفرنسية التي أمّنت له ولأسرته- التي تبعته فيما بعد- منفى مناسباً تفرّغ فيه لتأسيس وتنظيم تياره السياسي واختيار شعاراته الجذابة كالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد.
يقال في المثل الشعبي اللبناني إن «بين تشرين وتشرين صيف ثاني»، ويقصد بذلك مناخياً أنه في الفترة الممتدة بين أواخر شهر أكتوبر وأوائل شهر نوفمبر عادة ما يشهد البلد المتوسطي الجميل فترة صحو تشتد فيها حرارة الشمس بعد أن تكون الأرض قد شبعت من أولى بشائر المطر، مما يساهم في إنضاج حبوب الزيتون ويمكّن المزارعين من قطافه، أما عن «تشريني العماد» فليس للشمس ودفئها أي دور هذه المرّة في رفع حرارة جو الفترة ما بينهما وما بعدهما، حيث تكفّلت بذلك نيران المعارك العسكرية، وأُتون الانقسامات الدموية، ومن ثم «جهنم» الانهيارات الاقتصادية والكيانية.
ليس من السهل في بعض السطور اختصار المسيرة الطويلة للعماد ميشال عون بما فيها من تغيير للمواقع والمواقف، وليس المجال متاحاً لذكر أسباب وتفاصيل الانقسامات التي ارتبطت بخياراته السياسية والشخصية، ولم يعد مجدياً سرد كل الملابسات العسكرية والدستورية والاقتصادية التي ميّزت الفترات التي كان فيها «للجنرال» دور أو سلطة، فيكفي التذكير وتسليط الضوء على بعضها:
في عام 1990 خرج قائد «حرب التحرير» من قصر «بعبدا» تحت وابل مقذوفات الطيران السوري، وعاد إليه رئيساً للجمهورية بعد أن «سامح» وصافح وحالف النظام «الأسدي» الذي دعم انتخابه أو على الأقل لم يعارض ذلك، وقد سبق للجنرال في عام 1989 أن «شيطن» الدستور الناتج عن «اتفاق الطائف»، فهاجمه وشكك في أهدافه، وعارض نصوصه، وخوّن من وافق عليه، واعتبره خطيئة وطنية ومسيحية على وجه الخصوص، ومن ثم بعد عودته من منفاه في عام 2005 انضم الى مظلة الدستور نفسه ليتربع على الكرسي النيابي، ومن ثم الكرسي الرئاسي، ويحكم من خلال نصوصه دون أن يعمل بشكل جدّي على تعديله وفق ما يعتبره مناسباً. وفي النهار «التشريني» الأخير لإقامة الرئيس السابق للجمهورية في مقرّ الرئاسة، ارتأى «بيّ الكلّ» أن يغادر القصر بصورة «جنرال الرابية» زعيم «التيار الوطني الحرّ»، متجاهلاً- ربما بالفطرة ومن غير قصد- الصورة المفترضة للرئيس الجامع لكل اللبنانيين، ومؤكّداً في ذلك على نهجه الذي استمر طوال فترة ولايته الدستورية.
لا ينازع أحد في حريّة فخامته باختيار ما يشاء من وجهة سياسية وتوجهات حزبية يبدو أنه فخور بها ومصرّ على تكريس ما يميّزها من شعارات استقطابية، ومواجهات حادّة، ومروحة خصومات تمتد على مسافة المجتمع اللبناني بكل أطيافه ومعظم أحزابه ما عدا «حزب الله» الذي بادله الغطاء السياسي لتأمين ما يسمّى «الشرعية الميثاقية».
ولكن عندما يتعمّد العماد أن يظهر- في سلسلة مقابلاته التلفزيونية الأخيرة وفي خطابه الوداعي الذي ألقاه على مناصريه قبل مغادرته قصر «بعبدا»- بصورة المعارض «للمنظومة السياسية الفاسدة» وقد كان على رأس حكمها لست سنوات، وأن يعترف بفشل عهده ويلقي باللوم في ذلك على الجميع دونه رغم أنه سوّق لنفسه «كرئيس قوي»، وأن يصرّ على توقيع مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة وهي مستقيلة حكماً بموجب أحكام الدستور، وأن يساهم مع الحلفاء والفرقاء السياسيين بإدخال الرئاسات الدستورية في شغور دستوري خطر، فذلك شأن يطول مصالح جميع اللبنانيين ويضع فخامته تحت نظر التقييم لما أقدم عليه وساهم في حدوثه.
قد لا يسأل فخامة الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية بمفرده عن كل الانهيارات والانفجارات والأزمات التي رافقت عهده وطبعت صورته في أذهان اللبنانيين، فللمنظومة السياسية التي شارك فيها الرئيس- مع اختلاف النسب وتبدّل الأزمنة والأمكنة في تسبيب مآسي اللبنانيين منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اللحظة- دور بارز وواضح في كل الصراعات الدموية، والانقسامات العمودية، والسياسات الاقتصادية، والفساد الظاهر أو ذلك الممّوه بشعارات مكافحته.
لكن فخامته مسؤول بلا أي شك عن سياساته التي حركتها طباعه الشخصية، وتوقه الى التمرّد، وشغفه بالمعارضة، والتمترس خلف منصب القيادة للانقضاض على كل من يخالفه الرأي والتوجه، وهو مسؤول عمّا يثار من أسئلة وشكوك حول تقريب فئة أو شخص أو حزب عن غيرهم ممن يفترض أن يكون راعي مصالحهم الوطنية دون تمييز، كما يقع على عاتقه عبء تبخّر وعوده التي حركت في وجدان كل من صدّقها رومانسية الشعارات الوطنية، والأحلام «الرحبانية» والأمل بـ«فخر الدين» جديد... وكانت النتيجة محاولات الالتفاف على واقع الانكسار في «13 تشرين (اكتوبر) 1990» بتسويق شعار «الانطلاق من معركة التحرير الى معركة التحرر»، ومن ثم قدوم «31 تشرين 2022» على فشل عهد بررّه الرئيس وفريقه بمقولة «ما خلّونا» متخذين من ذلك حجة لسلوك درب المعارضة التي عادة ما تُربح أكثر في سوق الانتخابات وأحلام الرئاسة.
* كاتب ومستشار قانوني.
في منتصف ليل 31 أكتوبر 2022 انتهت الولاية الدستورية للعماد الرئيس بعد أن غادر قصر «بعبدا» قبل يوم من هذا التاريخ لتمكين مناصريه من مرافقته- يوم العطلة الأسبوعية- من مقر الرئاسة الى السكن المخصص لإقامته في منطقة «المطيلب بالرابية» حيث يقع منزله الحديث الذي ثار جدل حول تاريخ انتهائه وتكاليفه.
وفي ليل 13 أكتوبر 1990 انتهت حالة التمرّد التي تزعّمها العماد نفسه- رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة آنذاك- بفراره من ضربات الجيش السوري وحلفائه اللبنانيين، مغادراً القصر نفسه إلى سفارة الجمهورية الفرنسية التي أمّنت له ولأسرته- التي تبعته فيما بعد- منفى مناسباً تفرّغ فيه لتأسيس وتنظيم تياره السياسي واختيار شعاراته الجذابة كالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد.
يقال في المثل الشعبي اللبناني إن «بين تشرين وتشرين صيف ثاني»، ويقصد بذلك مناخياً أنه في الفترة الممتدة بين أواخر شهر أكتوبر وأوائل شهر نوفمبر عادة ما يشهد البلد المتوسطي الجميل فترة صحو تشتد فيها حرارة الشمس بعد أن تكون الأرض قد شبعت من أولى بشائر المطر، مما يساهم في إنضاج حبوب الزيتون ويمكّن المزارعين من قطافه، أما عن «تشريني العماد» فليس للشمس ودفئها أي دور هذه المرّة في رفع حرارة جو الفترة ما بينهما وما بعدهما، حيث تكفّلت بذلك نيران المعارك العسكرية، وأُتون الانقسامات الدموية، ومن ثم «جهنم» الانهيارات الاقتصادية والكيانية.
ليس من السهل في بعض السطور اختصار المسيرة الطويلة للعماد ميشال عون بما فيها من تغيير للمواقع والمواقف، وليس المجال متاحاً لذكر أسباب وتفاصيل الانقسامات التي ارتبطت بخياراته السياسية والشخصية، ولم يعد مجدياً سرد كل الملابسات العسكرية والدستورية والاقتصادية التي ميّزت الفترات التي كان فيها «للجنرال» دور أو سلطة، فيكفي التذكير وتسليط الضوء على بعضها:
في عام 1990 خرج قائد «حرب التحرير» من قصر «بعبدا» تحت وابل مقذوفات الطيران السوري، وعاد إليه رئيساً للجمهورية بعد أن «سامح» وصافح وحالف النظام «الأسدي» الذي دعم انتخابه أو على الأقل لم يعارض ذلك، وقد سبق للجنرال في عام 1989 أن «شيطن» الدستور الناتج عن «اتفاق الطائف»، فهاجمه وشكك في أهدافه، وعارض نصوصه، وخوّن من وافق عليه، واعتبره خطيئة وطنية ومسيحية على وجه الخصوص، ومن ثم بعد عودته من منفاه في عام 2005 انضم الى مظلة الدستور نفسه ليتربع على الكرسي النيابي، ومن ثم الكرسي الرئاسي، ويحكم من خلال نصوصه دون أن يعمل بشكل جدّي على تعديله وفق ما يعتبره مناسباً. وفي النهار «التشريني» الأخير لإقامة الرئيس السابق للجمهورية في مقرّ الرئاسة، ارتأى «بيّ الكلّ» أن يغادر القصر بصورة «جنرال الرابية» زعيم «التيار الوطني الحرّ»، متجاهلاً- ربما بالفطرة ومن غير قصد- الصورة المفترضة للرئيس الجامع لكل اللبنانيين، ومؤكّداً في ذلك على نهجه الذي استمر طوال فترة ولايته الدستورية.
لا ينازع أحد في حريّة فخامته باختيار ما يشاء من وجهة سياسية وتوجهات حزبية يبدو أنه فخور بها ومصرّ على تكريس ما يميّزها من شعارات استقطابية، ومواجهات حادّة، ومروحة خصومات تمتد على مسافة المجتمع اللبناني بكل أطيافه ومعظم أحزابه ما عدا «حزب الله» الذي بادله الغطاء السياسي لتأمين ما يسمّى «الشرعية الميثاقية».
ولكن عندما يتعمّد العماد أن يظهر- في سلسلة مقابلاته التلفزيونية الأخيرة وفي خطابه الوداعي الذي ألقاه على مناصريه قبل مغادرته قصر «بعبدا»- بصورة المعارض «للمنظومة السياسية الفاسدة» وقد كان على رأس حكمها لست سنوات، وأن يعترف بفشل عهده ويلقي باللوم في ذلك على الجميع دونه رغم أنه سوّق لنفسه «كرئيس قوي»، وأن يصرّ على توقيع مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة وهي مستقيلة حكماً بموجب أحكام الدستور، وأن يساهم مع الحلفاء والفرقاء السياسيين بإدخال الرئاسات الدستورية في شغور دستوري خطر، فذلك شأن يطول مصالح جميع اللبنانيين ويضع فخامته تحت نظر التقييم لما أقدم عليه وساهم في حدوثه.
قد لا يسأل فخامة الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية بمفرده عن كل الانهيارات والانفجارات والأزمات التي رافقت عهده وطبعت صورته في أذهان اللبنانيين، فللمنظومة السياسية التي شارك فيها الرئيس- مع اختلاف النسب وتبدّل الأزمنة والأمكنة في تسبيب مآسي اللبنانيين منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اللحظة- دور بارز وواضح في كل الصراعات الدموية، والانقسامات العمودية، والسياسات الاقتصادية، والفساد الظاهر أو ذلك الممّوه بشعارات مكافحته.
لكن فخامته مسؤول بلا أي شك عن سياساته التي حركتها طباعه الشخصية، وتوقه الى التمرّد، وشغفه بالمعارضة، والتمترس خلف منصب القيادة للانقضاض على كل من يخالفه الرأي والتوجه، وهو مسؤول عمّا يثار من أسئلة وشكوك حول تقريب فئة أو شخص أو حزب عن غيرهم ممن يفترض أن يكون راعي مصالحهم الوطنية دون تمييز، كما يقع على عاتقه عبء تبخّر وعوده التي حركت في وجدان كل من صدّقها رومانسية الشعارات الوطنية، والأحلام «الرحبانية» والأمل بـ«فخر الدين» جديد... وكانت النتيجة محاولات الالتفاف على واقع الانكسار في «13 تشرين (اكتوبر) 1990» بتسويق شعار «الانطلاق من معركة التحرير الى معركة التحرر»، ومن ثم قدوم «31 تشرين 2022» على فشل عهد بررّه الرئيس وفريقه بمقولة «ما خلّونا» متخذين من ذلك حجة لسلوك درب المعارضة التي عادة ما تُربح أكثر في سوق الانتخابات وأحلام الرئاسة.
* كاتب ومستشار قانوني.