الديموقراطية لدينا تمرّ بأزمة حادة، ونخشى أن تنقلب من نعمة إلى نقمة، ما لم تكن كذلك، ومن المشاركة للاستئثار، ومن الصالح العام إلى التنّفع والتنفيع الشخصي!
فعلى الرغم من أن ديموقراطيتنا بدأت سويّة وسارت رشيدة، لكنّه تم حرفها، فانزلقت لهدم الدولة بشكل لافت ومحزن!
فالنظام السياسي والديموقراطي - كما وضعه الآباء المؤسسون وجسّده دستور 1962 - نظام حكم متوازن ومنيع ومتطور وقابل لاستيعاب المتغيرات.
إلّا أنّ المحزن أنه قد تم تأطيره وتحجيمه وتشويهه، بمحددات التردد بداية، وبزجّه وأسره بالعصبيات ثانياً، وبحرفه عن مساره بالمصالح بتحويل الأعضاء إلى مناديب أو مخلّصي معاملات، بدلاً من أن يكون همهم المصلحة العامة للدولة والشعب وتنميتهما، وأخيراً، بالعبث بكيان المجتمع سياسياً، وهو أخطرها، بملفات وترتيبات تهدد السيادة والأمن الوطنيين.
فالتردد الذي لا يزال في أروقة السلطة لا بدّ من طرقه بين الفينة والأخرى، للتذكير بفضائل الديموقراطية والمكاسب الوطنية التي حملها دستور 1962، فحالة التردد بقبول الدستور ومحاولات الالتفاف عليه، خصوصاً بين المتنافسين على السلطة من أبناء الأسرة، هو العامل الرئيسي الأول في عدم استقرار النظام الديموقراطي والدولة، فهُم في تنافسهم على السلطة يتخطون الخطوط الحساسة التي تمثّل تهديداً للهوية الوطنية وسيادة الدولة ومرتكزاتها، من خلال بوابات كسب الولاءات والترضيات وعقد التحالفات، فتم التجنيس، ولا تزال أنماط منه حاضرة، واستخدمت الجنسية أداة سياسية بدل أن تكون ضمانة للوطنية والانتماء والولاء، وهي حال المناصب والمرافق التي صارت مباحة بحُكم التكسّبات والترضيات.
وتبع ذلك الزجّ بالنظام الانتخابي الذي ينبغي أن يكون «فلتراً» وطنياً يفرز الشخصيات ذات الحس الوطني ممن تحمل همّاً عاماً، فصار أداة لتحقيق مكاسب بمقاعد موالية بالبرلمان، وصار التقسيم لها، سواء من السلطة متفرّدة أو مع حلفائها في البرلمان، وجهين لحقيقة واحدة، هما تعزيز الاستقطاب العصبي، أو التحالفات الفاسدة لكسب المقاعد بتوظيف أسوأ الأمور، بدءاً بالعصبيات ومروراً بخلط الاختصاصات، واستخدام منطق التوافق لضمان تمرير التجاوزات التي تتعدى فيها السلطتان معاً على الدستور وثوابته، وعلى المنهج الوطني، بل وحتى استقرار البلد، وهو ما تمّ على مراحل في الثلاثين عاماً الماضية، من خلال زعامات برلمانية فاسدة، بإدخال شريحة ناخبين فاق عددهم الطبيعي، وهو ما فرض تغييراً ديموغرافياً للشعب، والأخطر تغييراً في المكون السياسي للناخبين والنواب خلافاً للدستور وثوابت البلد المستقرة. فلم يعُد الصالح العام، بالنسبة إلى النواب والحكومة، محلّ اعتبار، فكسر النواب قيَمه ومبادئه، ولم تأبه الحكومة لذلك، وهمّهما الوحيد وغايتهما القصوى، بكل أسف، هو البقاء والاستمرار بمقاعدهم على حساب البلد واستقراره وتنميته ومنعته، وهو ما ينبغي التصدي له ووقفه.
وهكذا تم حرف مسار العمل الحكومي والبرلماني بمسار المصالح المتبادلة وبمسار المهادنة للبقاء، ولحق ذلك سماح الحكومة للنواب بالتغوّل على ميدانها تجاوزاً لكل الحدود الدستورية للسلطة التشريعية، وأقحموا أنفسهم بميدانها بشكل قسري وابتزازي ينتهك الدستور بشكل صارخ، بحجّة أن المجلس سيد قراراته، وهي مقولة حق أُريدَ بها باطل لإقحام أنفسهم في ميدان العمل التنفيذي، خروجاً على أحكام الدستور، وتم تطويع الأدوات التشريعية والرقابية لأغراض التمويه وكسر الحدود الدستورية، وحصر مفهوم النيابة بطوق المصالح الانتخابية، وضمان العودة إلى المقعد الانتخابي، وتم رهن مصالح الدولة ومواردها، بل حتى استقرارها وسيادتها بقاطرة المصالح الانتخابية ذات الانعكاسات المضرّة والمنزلقات الخطيرة في الأربعين عاماً الماضية، ولم تتعافَ منها حتى اليوم.
أما العبث بالمكون السياسي للمجتمع وتداعياته الأمنية والسيادية، فخطرٌ حالي ومباغت، ولا يعلم المرء - في ظل المعطيات والمتواليات، التي لم يعُد لها سقف ولا رادع، وتتعاضد في تحقيقها الشرائح الفاسدة أو المتمصلحة مرحلياً - متى يتصدع المكون السياسي من الداخل، بسبب عدم ارتباطه المصيري بالدولة، وقيامه على عصبيات لا تتوافق ونظام الدولة الدستورية والمؤسسية، والذي أملته ورعته وباركته أجندات غير رشيدة بعض منها في الأسرة، وقسم في الحكومة وأكثرية بالبرلمان، الذي تحوّل إلى مريض بمتلازمة العمى والصمم والبكم، فلا يرى ولا يسمع إلّا نفسه، ولا تسيّره غير النفس الأمارة بالسوء من أجل مقعد فتهدم البلد، ولا عزاء للتنمية والتعمير.