طالما كانت الحريات في الكويت مدعاة فخر لروّاد الأدب والثقافة والفنون والعلوم وكتّاب الرأي، وأكاديميي الجامعات والباحثين والدارسين والقرّاء، والمهتمين بتطوير هواياتهم، والأطفال الذين كبروا في بيئة مدرسية لم تحرمهم السؤال ولم تمنع عنهم الرياضات الفكرية والموسيقى والرسم، حتى برزت ثلّة الأوصياء على العقول، الرقباء على تغيّرات الطبيعة في المجتمع، غريغور مندل كان يراقب نباتات البازلاء ووصل بتجربته إلى تدوين التغيّرات واكتشاف قوانين الوراثة، لكنّ الرقباء في وطننا يترصدون كل أخضر ينمو خارج الحقل، يشذبون ما طال بمقصات سخطهم، يقتلعون الثمر الجديد ويجرفون التربة الخصبة ولا يزعجهم المنظر القفر، ما دام صوتهم وحده يصدح فوق المنابر ويعتلي الحشود بأدعية الغيث، لا يحتاجون علماً يستكشف قدرة الإنسان في تجارب الاستمطار، ولا يريدون تأمّلاً يحتفي بجمال الكون وبداياته، ولا تجارب أو بحوث لتجنّب أسباب الكوارث والأمراض، ولا بحثاً علمياً يستقرئ الزلازل والبراكين والفيضانات والاحتباس الحراري، يستبقون مسألة «الغيب النسبي» حتى يطيحوا بالعلوم تجهيلاً وتعتيماً، فكلها عقوبات منزّلة بسبب الفساد و«الحمدلله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وفضّلنا على كثير ممّن خلق...»، اكتفوا بقصور عقولكم ولا تمكّنوا الحواس من خوض ما لا تعلمون!
• ليت الفتى حجر كي يألف الصحراء، لكن البوار «شرّدني»، حتى بتّ أردّد صوت محمود درويش وهو يقول: «أكلّما ذبلت خُبّيزة، وبكى طيرٌ على فنن، أصابني مرضٌ، أو صحت: يا وطني!».
• تاريخ الرقابة ظلّ مراوحاً في سطوته، الرقابة المسبقة تم إلغاؤها في أغسطس 2020، والرقابة الجارية ظلّت تشدّ شعرها لتعيد للجلّاد أمجاد الاعتقال والحبس وحرق الكتب القديمة، أما الرقابة اللاحقة فلم تمت بعد، شبحها يلوح في الأفق الضيق، فخّ للكتب سيودي بها حتماً، وميدان الحرب متاح لينازل الجامعة والمؤسسات الثقافية بسلاح التشكيك والاتهام، لكن الفكر جَسورٌ حرٌّ وحيّ، وحرية الرأي والبحث العلميّ وحق التعبير مكفولة في دستورنا، ما الذي أخافكم؟!
• وماذا نفعل؟ حتى النعامة التي كانت تدفن رأسها في الرمال اكتشف العلم أنها وصلت إلى القاعدة الفيزيائية قبلنا، تنصت للذبذبات التي تنتقل في الوسط الصلب «التربة» أسرع من انتقالها في الهواء لتصطاد فريستها، الخوف ما زال يطأطئ الرؤوس، لم يكفِهم تأخر الدوريات الثقافية كمجلة «العلوم» و«عالم المعرفة» بسبب ملاحظات الرقيب، ولا انتهاء الفعاليات الموسومة بأسماء الفلاسفة وعشاق نظريات التمدّد والنسبية والكمّ، ولا إغلاق ندوات التجديد والتغيير البابَ على ثوابت أطلالها، إنهم يلوّحون للرؤوس بسيوف الهرطقة، فهل ندفن الرؤوس خشية قطافها؟!
• ألغيت ندوة علمية في جامعة الكويت، وهذه ضربة استباقية للأصوات المتشدّدة، سابقاً، نافح فهد العسكر عن فكره بالقول: «وتطاول المتعصّبون وما كفرتُ... وكفّروني»، وجابهَهم صقر الشبيب: «ما يريدون بالذي يذيعون من كفري المزوّر أو لبسي؟»، ماذا لو عرفا أن الذين حرّموا الصحف والتلفاز وتعلّم اللغات الأجنبية في زمنهم حطوا الرّكاب بعد ستين عاماً عند مؤسسات الثقافة وجامعة الكويت ليجهزوا عليها بتهمة الابتداع والزيغ والضلال؟ هل سيبقى الشبيب وحيداً وهو يردد: «اتركوني ولا تتبعوني»، أم سيسأل مبهوتاً: ما الذي أخافكم؟
• حين توقفت الشاحنة شعر قائدها بأن رأسه على وشك أن ينفجر، التفت إلى الوراء حيث ألقى بالجثث، إلا أنه لم يرَ شيئاً، بهذا المشهد صوّر غسان كنفاني مصير الخنوع والرضوخ في روايته «رجال في الشمس»، وهنا «انتهت» حياة كانت تطلب الحرية حين التزمت الصمت، حدّق أبو الخيزران في العتمة، صاح: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها تردّد الصدى:
- لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»
كم يشبه سؤالنا المشدوه: ما الذي أخافكم؟!