عطفا على مقالي المنشور على هذه الصفحة في أول الشهر الجاري الذي فسّرنا فيه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، وفقا لأصول التفسير السليم للنصوص، وسداً للذرائع، فلا يعزل نص عن غيره من النصوص التي تنزه عن التعارض أو التهادم أو التنافر، فهي تتكامل في إطار مقاصد القرآن الكريم، نابضة بالحياة في كل زمان ومكان، لا تصد عن التفسير آفاقه الرحبة في أن يلبي حاجات الناس ويواجه مختلف التحديات.
فإن مؤدى هذا النص ومفاده، مع نبل باعث التفسير الآخر، هو وحدة الأمة واتقاء للفتنة، والذي عرضناه في مقال لي على هذه الصفحة في عددها الذي قلنا فيه إن خطاب المولى عز وجل في هذا النص موجه إلى الذين آمنوا كافة، بمن فيهم «أولي الأمر»، وليس خطابا إلى الأمة بالطاعة لأولي الأمر خاصة وأنه لم يسبق عبارة «أولي الأمر»، في الآية الكريمة الأمر بالطاعة مثلما جاء قوله تعالى: «وأطيعوا الرسول» بعد قوله سبحانه «أطيعوا الله»، وغير ذلك من أسباب، منها ما يقوله فضيلة الشيخ عبدالمتعال الصعيدي، وهو واحد من كبار علماء الأزهر المجددين، في كتابه «حرية الفكر في الإسلام» من أن الأمة مصدر السلطات، وترتب على ذلك أن يكون حاكمها تحت سلطانها وليست هي تحت سلطانه، وهو ما تؤيده أحكام الشريعة الإسلامية، في مبادئها الكلية التي تناولت من بين ما تناولته من مصادر التشريع، مصدرين للتشريع هما: أولا: المصالح المرسلة، ثانيا: قول الصحابي.
أولاً- المصالح المرسلة:
وقد اعتمد الفقه الإسلامي المصالح المرسلة باعتبارها أحد المصادر الاجتهادية في استنباط الأحكام الشرعية لأمر لم يرد حكمٌ له في نص قرآني أو حديث نبوي صحيح.
والمصالح المرسلة هي كل مصلحة عامة وليست شخصية، تؤدي إلى جلب منفعة أو دفع مفسدة عن عموم الناس، وقد أخذ بالمصلحة المرسلة الإمام مالك والإمام أحمد، وجعلوها مصدرا تشريعيا مستقلا تبنى على أساسه الأحكام الشرعية عند غياب النص الذي يحكم المسألة، وألحقها أبو حنيفة بالقياس للضرورة، وقد غالى البعض، فقدم المصلحة المرسلة على النصوص التشريعية عند التعارض.
وفي هذا يقول ابن تيمية، وهو من أكثر الأئمة تشدداً في التمسك بحرفية النصوص القرآنية «من المسلمين ممن فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة، لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل»، ولا ريب ولا جدال في أن مصلحة الأمة الإسلامية هي رفع شعار مبدأ سيادة الأمة عن رفع شعار الطاعة للحاكم، وهو المبدأ المستمد من الأمر الإلهي في قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ».
ثانياً- قول الصحابي:
وهو ما اعتبرته مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، والصحابي هو من لقي الرسول عليه الصلاة والسلام وآمن به، وطالت صحبته ورأى أفعاله وسمع أقواله، وأخذ عنه مبادئ الإسلام وأصوله، وهو ما يصدق على الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعا.
وقد كان لنا أسوة حسنة في سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي أوقف العمل بحد من الحدود الشرعية، وهو حد السرقة الوارد فيه نص قرآني، وذلك في عام المجاعة.
وقد كانت حقوق الأجيال القادمة من أيقونة العدل التي كانت تتوج حكمه الرشيد، بعد فتح العراق حيث واجه تحدياً خطيراً من الجند الذين فتحوا العراق، وأرادوا أربعة أخماسها نصيبهم في غنائم الحرب عملاً بقوله سبحانه وتعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»، وعملاً كذلك بسنّة الرسول، عليه الصلاة والسلام، حين وزع أرض خيبر على هذا النحو لمن فتحوها، وقد نزلت عليه تلك الآية الكريمة، فقد كان رأي سيدنا عمر، رضي الله عنه، في قسمة الأرض ما قاله للصحابة الذين خالفوه في هذا الرأي: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قُسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟!
ولما اشتد الاختلاف في الرأي بينه وبين الصحابة ومن بينهم الصحابي عبدالرحمن بن عوف، وكان رأيهم أن يقتصر نصيب بيت المال على الخُمس، وأن يوزع الباقي على الجند، ولم يستبد سيدنا عمر، رضي الله عنه، برأيه فاحتكم إلى عشرة من كبار الأنصار نصفهم من الأوس ونصفهم من الخزرج، ليشتركوا في أمانته فيما حمل من أمورهم، قائلاً لهم: لست أريد أن تتبعوا هواي، فلكم من الله كتاب يتعلق بالحق، وما أريد إلا الحق فيما رأيت من رأي، إذا لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد تشاوروا في هذا الأمر ثم قالوا له: «نِعمَ ما قلت، ونِعمَ ما رأيت».
وقد تكرر الاختلاف بين سيدنا عمر وبين الصحابة في المسألة ذاتها بعد فتح الشام، وتكرر الاحتكام ذاته لحسم هذا الاختلاف في الرأي، وقد بنى سيدنا عمر، رضي الله عنه، رأيه متسائلاً: «ماذا يكون كلا عند المسلمين إذا قسمت الأرض المفتوحة على الجند، وهو أربعة أخماسها، واقتصر حق بيت المال على الخُمس، فبماذا تسد الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بالعراق والشام؟».
ويقول أبو يوسف في كتاب «الخراج» إن اجتهاد عمر في هذه المسألة كان توفيقاً من الله، وفيه كان الخير لجميع المسلمين، وقد جعل على هذه الأرض المفتوحة خراجاً وفيئاً يقسم بين المسلمين عامة بما يحقق النفع العام موقوفاً عن الناس، وعلى ما قامت به الجيوش الإسلامية بعد ذلك من الفتوحات التي ساهمت مساهمة كبيرة في نشر الدعوة الإسلامية، بالرغم من وجود نص قرآني وفعل للرسول بعد فتح خيبر في توزيع الغنائم على عكس ما رآه سيدنا عمر رضي الله عنه.
ولا ريب ولا جدال أيضاً بأن عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة قد ولّى، وفي هذا السياق يقول ابن القيم «من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة فجعلوا الشريعة قاصرة، لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا ما ينافي شرع الله، وأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضا، ومن الفئة الأخيرة في رأينا من عاضدوا الحكام المستبدين فى إباحة طاعتهم رغم استبدادهم».
كما يقول ابن تيمية إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة،
لهذا كان المخرج الوحيد من الوقوف في وجه استبداد الحكام المتعاقبين بعد عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة، هو إعلاء مبدأ سيادة الأمة على مبدأ سيادة الحاكم، والأمر بطاعته، وفقا لتفسير النص القرآني، بترجيح الفهم الذي لا يقوم معه التعارض مع نص القرآن «وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ».
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.