الحكماء عيون القادة
المتتبع لتاريخ الامبراطورية البريطانية سيجد أن معظم ملوكها العظماء كانوا يحيطون أنفسهم بمجموعة من الجلساء المخلصين ممن يتصفون بالحكمة والصدق والولاء المطلق للملك، تسند إليهم أعمال ومهام خاصة، مسموح لهم ما لا يسمح لغيرهم، لكن الأهم من كل هذا وذاك أن آذان الملوك تصغي لمشورتهم.
هؤلاء الحكماء صنعوا الفارق للمُلوك، وغيروا مجرى تاريخ بريطانيا تحت ظروف استثنائية، أذكر منهم مثالين أو بالأصح نصيحتين استوقفتاني كثيراً، لما تحملانه من بلاغة لغوية ووضوح المغزى.
النصيحة الأولى وُجهت إلى الملك هنري الخامس بسبب تردده «المشاكل التي تُهمل عادة ما تتحوّل إلى أزمات»، هذه العبارة جعلت منه حاكما وقائدا عسكريا استثنائيا خلده التاريخ، رغم قصر فترة حكمه.
أما النصيحة الثانية فكانت لملك آخر لا أتذكر اسمه، إلا أنها لا تقل أهمية عن الأولى، لا من حيث البلاغة ولا من قوة المقصد «إن لم تستطع قول ما تقصده جلالتك، فلن تقصد ما تقوله أبداً، والسيد النبيل يجب أن يقصد ما يقوله دوماً».
لو تمعنّا في النصيحة الأولى والثانية ثم أسقطناهما على واقعنا السياسي والإداري لوجدنا أن معظم المشاكل التي تحولت إلى أزمات كانت بسبب التردد في اتخاذ القرار، وبسبب الوعود الفارغة التي يطلقها بعض المسؤولين عن إدارة البلد.
معظم مشاكل الأمس تحولت إلى أزمات، في حين كان حلها سهلاً لو اتُّخذ فيها القرار المناسب في الوقت المناسب، ولنبدأ بقضية البدون التي ظهرت على السطح بعد ستينيات القرن الماضي، والتي كان بالإمكان معالجتها آنذاك لسهولة حصر الأعداد وبيان المستحقين، لكنّها أُهملت حتى أصبح من دخل الكويت، بعد تلك الفترة وبصورة غير قانونية وبجواز معلوم، يتساوى مع من له حق في المواطنة الكاملة.
اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن، وبسبب التباعد الزمني بين الأجيال الأول والثاني والثالث حتى الرابع وربما الخامس، صار من المستحيل اعتراف بلدانهم الأصلية بهم وتهجيرهم بعد أن انقطع اتصالهم بها.
وإذا استفضنا أكثر في المشاكل التي تحولت إلى أزمات، ومنها التركيبة السكانية، فإنه على الرغم من أن دولة الكويت كانت من أولى الدول في المنطقة التي لديها إحصاءات وسجلات سكانية موثقة، فإن التأخر في حسمها نتج عنه أزمات الواحدة تلد الأخرى، حتى صارت قضية تجار إقامات ومسؤولين مرتشين وعشرات الألوف من مخالفي قانون الإقامة.
قائمة الأزمات طويلة، فاليوم لدينا مشاريع وهمية، وإن نفذت تكون أسعارها مبالغاً فيها، فضلا عن جودتها وطول مدة تنفيذها والأوامر التغييرية، وغلاء أسعار العقارات وندرة الأراضي السكنية وطوابير انتظار طويلة تمتد لسنوات، وشوارع تالفة وازدحام مروري على مدار اليوم.
ولدينا تعليم يتراجع كل سنة عن الأخرى، وخريجون بلا وظائف، وإن تم استيعابهم فعلى حساب القطاع الحكومي الذي اكتظ وترهل بهم، والقطاع الخاص من مقصورته يتفرج عليهم، وميزانية تسجل عجزاً سنوياً، ولولا لطف الله في الكويت في ارتفاع أسعار النفط لكنا في خبر كان، ومع هذا كل فترة نسمع الأسطوانة المشروخة بتنوّع مصادر الدخل ومشاريع رنانة، والنتيجة جعجعة بلا طحين، فقط نتابع حكومة تدخل وحكومة تخرج والوعود ذاتها.
النصيحة الثالثة لمن بيده القرار اتباع قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».
ودمتم سالمين.