ليس من السهل تقديم دليل حاسم لإثبات جرائم استغلال المعلومات غير المفصح عنها Insider Trading، فمن الصعب الكشف بدقّة عن عدد المخالفات المرتكبة ومقدار المبالغ التي تم ربحها أو الخسائر التي تم تجنّبها نتيجة لذلك، فكل ما نعرفه عن ذلك هو محض تخمينات قابلة للدحض.
وتشير الدراسات في هذا الشأن إلى أن عدد جرائم استغلال المعلومات غير المفصح عنها يفوق بأربعة أضعاف عدد الجرائم التي تفتح هيئة أسواق المال الأميركية تحقيقًا بشأنها، وذلك في دولة رائدة في مكافحة جرائم التربح من وراء استغلال المعلومات غير المفصح عنها، كالولايات المتحدة الأميركية. فلا يجد مَن يتابع التطورات تغييرًا في عدد الأحكام الصادرة عن المحاكم الأميركية في ذلك بين سنة وأخرى، فكمية لا بأس بها من التحقيقات التي تجريها هيئة أسواق المال الأميركية SEC في هذا الشأن تنتهي إمّا بالحفظ الإداري وإما بأحكام صادرة بالبراءة بعد الإحالة إلى المحكمة.
وفي الكويت التي تعدّ من الدول الحديثة نسبيًّا في تجريم إساءة استغلال هذا النوع من المعلومات، فإنّ الأحكام الصادرة بإدانة المطّلعين الأصليين أو الثانويين أو حتى غيرهم - لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ولا يختلف الأمر كثيرًا في دول العالم أجمع، فالمتفحص للتراث القضائي المشترك في هذا الخصوص على اختلاف النظم القانونية يجد أن من النادر جدًّا أن تَصْدُرَ أحكامٌ بالإدانة ليس بسبب عدم وجود وقائع تستحق التقديم للمحاكمة، بل لأن الإثبات في مثل هذه الوقائع ليس بتلك السهولة المتصوَّرة. فلا تحيل هيئات التحقيق إلى أسواق المال على اختلاف مسمياتها إلّا الجرائم المُرجَّح اقتناع المحكمة بقيام فاعليها بارتكابها، ومع ذلك غالبًا ما تنتهي بالبراءة. بل وحتى مع قيام هيئة أسواق المال الأميركية بمحاولات لتوسيع نطاق النظريات المستخدمة بين الفينة والأخرى من أجل بناء سوابق قضائية راسخة، فإن المحاكم في أحيان كثيرة تلتفت عن ذلك.
نعيش اليومَ في عالم تتداخل فيه آلاف من عمليات التداول المتعلقة بشراء الأسهم وبيعها، والتي تحدث يوميًّا في بورصات الأوراق المالية من متداولين يعيشون في الدولة التي تقع البورصة محلُّ التعامل فيها، وغيرها من العمليات التي تحدث من متداولين دوليين لا يقيمون في هذه الدولة، أو ربما لم يسبق لهم زيارتها من قبل. فبفضل التطور التقني الذي شهدناه في العقدين الأخيرين، أصبح بإمكاننا اقتناء الأسهم التي نرغب في المضاربة أو في الاستثمار البعيد المدى بها بكبسة زر عبر إنشاء حساب شخصي في المنصات الإلكترونية الخاصة بالوسطاء المعتمدين ونحن جالسون في بيوتنا. فمع التداول في بورصة الكويت، فإن العديد منّا يقوم بالتداول في بورصات إقليمية بدول الخليج، وأخرى دولية كسوق لندن للأوراق المالية وبورصتَي نيويورك وناسداك في الولايات المتحدة الأميركية.
ومن المتصوَّر عمليًّا حدوث تداولات استنادًا إلى معلومات غير مُفْصَح عنها، من خارج الدولة أو داخلها. ومما يزيد الأمر صعوبة أنْ تحدث مثل هذه التداولات من متداولين ليسوا من المطلعين الأصليين الذين تنطبق عليهم القواعد الصارمة للإفصاح. فهذا النوع من المتداولين عادة لا تُثار الشكوك حولهم ولا تقوم هيئات التحقيق بتتبع كلِّ تعاملاتهم، خصوصًا أولئك الذين يقومون بالتداول خارج حدود الدولة. وتسهيلًا للإبلاغ عن التداولات المشبوهة، قامت هيئة أسواق المال الأميركية باستحداث برنامج للإبلاغ عن شبهات الجرائم المتعلقة بالتداول بالمعلومات غير المفصح عنها عبر تقديم حافز مالي للمبلّغين استنادًا إلى نصوص قانون دوك فرانك الفدرالي لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك الذي أقرَّه الكونغرس الأميركي عام 2010 The Dodd–Frank Wall Street Reform and Consumer Protection Act، بعد الأزمة المالية الخاصة بالرهن العقاري في عامَي 2007 – 2008، لتلافي تكرار ما حدث بها ولإعادة تشكيل النظام المالي الأميركي بجعله أكثر متانة مما هو عليه قبل الأزمة.
يساعد نظام المكافآت المالية هيئةَ أسواق المال الأميركية على اكتشاف مخالفات التداول بناء على معلومات غير مفصح عنها، ومكافأة المبلّغين عن المخالفات من خلال صندوق حماية المستثمرين التابع للهيئة، إذ تبلغ المكافأة المالية للمبلغين عن المخالفات في قضايا التداول 10 - 30 بالمئة من إجمالي العقوبات النقدية الموقعة على المخالفين. وحتى نهاية عام 2022، تجاوزت قيمة المكافآت المالية في مخالفات شتى تم منحُها للمبلغين ما يزيد على مبلغ مليار ونصف المليار دولار، جلها يتعلق بالإبلاغ عن مخالفات للتداول بناءً على معلومات غير مفصح عنها. وبطبيعة الحال، فإن هُوِيّة المبلغين تظل سرية مع تقديم ضمانات حمائية لهم ضد محاولات الانتقام ممَّن تم الإبلاغ بشأنهم، ضد الفصل التعسفي من العمل وغير ذلك. وهُوِيّة المبلغين لم تقتصر على أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة، بل تلقت هيئة أسواق المال الأميركية عددًا من البلاغات من أشخاص أجانب يعيشون في دول أخرى.
أدى نظام الحوافز المالية هذا إلى دعم الدعاوى التي ترفَعُها هيئةُ أسواق المال الأميركية ضد مَن يتداول بناءً على معلومات غير مفصح عنها، حيث أصبحت هذه الادعاءات مدعومةً بأدلة أقوى. في المقابل، تبنَّت دول أخرى نموذجَ نظام الحوافز المالية الأميركي مع بعض التغييرات، كهيئة أسواق المال في مقاطعة أونتاريو بكندا، والتي حددت نسبة المكافآت المالية للمبلغين عن المخالفات بين 5 و15 بالمئة كحد أقصى من إجمالي قيمة العقوبات الموقعة. ولكن سياسة نظام الحوافز المالية لم تجد لها صدى في بعض الدول التي تتمتع بأنظمة ذات تشريعات مماثلة لحماية الاستثمار في بورصات الأوراق المالية، كبريطانيا مثلًا.
فتوجُّه هيئة سوق المال البريطانية لا يزال ضد منح حوافز مالية للمبلّغين عن مخالفات التداول بناءً على معلومات غير مفصح عنها لثلاثة أسباب جوهرية: أولًا، من غير اللائق تقديم حوافز مالية لمجرد القيام بتقديم بلاغ عن وجود جريمة، فهذا يُعَدّ واجبًا عامًّا على كل فرد قادر على القيام به كالتزام قانوني في المقام الأول، وأخلاقي قبل كل شي آخر.
ثانيًا - غالبية مَن يقوم بالإبلاغ عن هذه المخالفات إمّا أنْ يكون متداولًا حصيفًا ذا خبرة بالأسهم، وإمّا أنْ يكونَ شخصًا من طبقة اجتماعية عُليا، باعتبارهم غالبية مَن يستثمر في أسواق المال، وفي كلتا الحالتين، هم لا يحتاجون إلى تقديم السلطات مزيدًا من الأموال لهم. ثالثًا - لا توجد أدلة ملموسة حتى الآن تدلّ على وجود علاقة طردية بين عدد البلاغات وعدد أحكام الإدانة في هذا الخصوص. والمفارقة هنا تكمن في قيام البريطانيين بالتركيز على تقديم البلاغات لهيئة أسوق المال الأميركية طمعًا في الحوافز المالية، إذ تشير تقارير المبلغين الأميركية إلى أن بريطانيا تتصدر الدول بإجمالي عدد البلاغات الواردة من دولة أجنبية.
واتخذ المشرع الكويتي موقفًا وسطًا بين توجه المشرعَيْن الأميركي والبريطاني، ففي الكتاب الثالث من اللائحة التنفيذية لقانون هيئة أسواق المال رقم 7 لسنة 2010 المتعلق بإنفاذ القانون، نص في الفصل الثالث في المواد من 8-3 إلى 13-3 منه على قواعد الإبلاغ عن المخالفات والجرائم وحماية المبلّغين، لكنّه لم يجعل تقديم المكافآت المالية إجباريًّا عند تحقق شروط صحة البلاغ كالأميركي، ولم يمنع تقديم المكافآت المالية تمامًا أسوة بالبريطاني، فجعل مثل هذه المكافآت أمرًا اختياريًّا إذا كان البلاغ مستوفيًا الشكلَ المطلوبَ قانونًا ومتضمنًا معلومات ووقائعَ جدية، بشرط أن يُثمر التصرف بفرض جزاء مالي على المخالف.
* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال
كلية الحقوق - جامعة الكويت