المؤرِّخ جزء من الحاضر الآني، يعيش في حاضره لكنه في عمله يعالج مادةً تاريخيةً تزدحم فيها الأفعال الماضية، وهو في هذا قنطرةٌ تمتدُّ بين الحاضر بالماضي ليسعى الوعي بينهما جيئةً وذهاباً، وفي ذلك المسعى تطرح الأحداث المواضي والهموم الحواضر من الأسئلة الملِحَّة ما يحمل المؤرِّخَ على شحذ بصيرته، وإرهاف النظرة المتأمِّلة النافذَة إلى جوهر ما يقوم به من عمل، إنَّه يَعْمَدُ إلى أحداث التاريخ فيجمع بينها كيف اتَّفَق له الجمع، ثمَّ يُحكِّمُ فيها قانون التداعي المحكوم بمتوالية الزمن، المطلق من قيود العلِّيَّة والاستنباط، ويجعل من الهموم الحواضر مفتاحًا لمغاليق أسرار الماضي، ويتوسَّل بالماضي وحوادثه وأبطاله لتَعَقُّلِ الحاضر في حركةٍ دائرية لا تعرف السكون.

ليس المؤرخ مجرَّدَ مدوِّنٍ راصد، وكيف يكون كذلك وهو المعتصم بالرؤية النافذة، فهو لا يتعقَّل الأحداث المواضي ليُقَرِّرَ ما حدث فقط، بل يتَّخِذ من تلك العمليَّة وقودًا للانطلاق في رحلة صياغة المستقبل، وهو في الحالَين يظل بفكره وبصيرته ماثلًا في لحظة الآن من الزمان، ومحقِّقًا لمجاز العبور في المكان، في كينونةٍ متصلةٍ لا يحكمها قانون التداعي، بل تضبط حركتها سُنَنُ الفعل الإلهيّ والإنسانيّ في الحياة، حتّى لا انقطاع فيها بين ما كان وما يكون، إلا بمقدارِ ما تتفاعل السننُ في لحظة الحضورِ البينيّ التي يعيشها المؤرِّخ عقلًا ووجدانًا وبصيرة.

Ad

هذا ما تلمسناه في الفعل التأريخي للأدب عند خالد سعود الزيد في موسوعته «أدباء الكويت في قرنين»، عندما كان «الاستقلال السياسيّ» في حاجةٍ إلى دعمٍ من جوانب أخرى من بينها «الاستقلال الثقافيّ»، لكنَّه لم يقفْ عند هذا الحدّ، بل نجده يقرأ الأربعة عشر مجلَّدًا من «دليل الخليج» للمؤرِّخ والجغرافي الإنجليزي جون لوريمر، وهو كتاب وُضِع في الأصل ليكون خارطة طريقٍ تساعد السياسيين الإنجليز الذين يجوبون المنطقة، يقرأ الزيد هذه المجلدات الضخمة ويستخرج منها المادة الخاصَّة بالكويت كما جاءت بالجزء الثالث من الدليل، ويستكمل حوادثها بالمتفرّق من الأخبار الموجودة عن الكويت في ثنايا المجلدات الأخرى من الدليل، لتخرج المادَّة العلميَّة متكاملةً كما نسجها ووصفها لوريمر.

اتَّصل هذا الفعل التوثيقيّ بسياقٍ تاريخيٍّ ذي أهميَّةٍ، فقد كانت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة في بدايتها، حين أعلن الزيد أنَّ الصبِّيَّة منطقةٌ تاريخيَّةٌ بالأدلة والشواهد التاريخيَّة والعينيَّة، لكنَّ ذلك الإعلان لم يحرِّك السلطة السياسية لتتفاعل معه كما كان يجب، بل حرَّكت أقلامها لمحاربته، ولعلَّ سبب ذلك أن السلطة السياسية في حينها لم تُرِدْ فتح باب النقاش حول تاريخيَّة المنطقة، والعراق في حربٍ مستعرةٍ مع جارته إيران، وربما لو كانت الدولة رحَّبت بمثل هذا الاكتشاف الذي أعلن عنه الزيد لشكل ذلك أساسًا للكشف عن الجذور التاريخيَّة للدولة، كما صنعت الدولة قبل استقلالها مع البعثة الدانمركيَّة عام 1958، حين نقَّبَت في جزيرة فيلكا واكتشفت من الكنوز ما أصبح نواةً لمتحف الكويت الوطنيّ الذي دُمِّرَ بعد سرقته أثناء الاحتلال العراقي للكويت.

إنَّ التاريخ يشكِّل لأهله مرآةً وحصنًا في آن: فهو مرآةٌ نتعرَّف فيها الأحداث المواضي فنتأملها ونمعن النظر فيها، لنرى توثيقًا للحروب التي خضناها، وحصرًا للضرائب التي دفعها الشعب في ذلك الوقت، ونقف على الدور الذي أدّاه الإنجليز حين أظهروا شخصية المسكين الذي لا حول له ولا قوة، وهو في الوقت نفسه ينسج ذلك المتمسكن دسائسه ويحيك مؤامراته ليفرِّق بين أبناء الشعب وحاكمهم. إنَّ المرآة هشَّةٌ يسهل كسرها، لكنَّ مرآة الماضي حين نتأمَّلُ فيها إنَّما نتأمل فيها ذواتنا الفرديَّة والجمعيَّة، وعندها تصبح هذه المرآة الهشَّة حصنًا منيعًا لنا في حاضرنا ومستقبلنا، فنفهم أنَّ الحروب لا تأتي إلا بالويلات، وأنَّ الوعي بخصوصيَّتِنا وتركيبتِنا السكانيّة والثقافيّة هي «كُوتُنا» الحقيقيّ، الذي نلجأ إليه عند الشدة.

هل كان الزيد يؤرخ وفي ذهنه كلَّ ذلك؟ أحسب أنَّ الإجابة بالإيجاب، فالرجل كما عرفته وخبرته يضع الكويت في قلب اهتماماته، فهو يريد لها أن تكون اسمًا ثقافيًّا وحضاريًّا، لذا كانت مؤلَّفاته تنطقُ بمثل هذا الحبِّ بدءًا بأمثال الكويت العاميَّة، ومرورًا بأدباء الكويت في قرنين، وتوثيق تاريخ المسرح والقصة، وانتهاءً بالكتابة عن بعض الأعلام في الكويت والخليج العربي.

إنَّ قراءة «الكويت في دليل الخليج» بسفريه التاريخيّ والجغرافيّ تكشف الجهد الكبير الذي بذله الزيد، ويتَّضح ذلك في كميَّة الهوامش في هذين السِّفرين، ففي تلك الهوامش نكتشف أمورًا عديدة نذكر منها بعض النقاط والملاحظات:

1. أمانته العلميَّة التي تجلَّت في حرصه على ذكر الصفحات التي نقلها من «دليل الخليج»، لا سيَّما في الفقرات المتناثرة المبثوثة في الأجزاء الأربعة عشر بسفريه التاريخي والجغرافي.

2. تصويبه لعديدٍ من التواريخ الخاطئة التي وردت في الأصل المترجم، فنجد الزيد يصحِّح ذلك في المتنِ ويذكر الخطأ في الهامش، حتّى يسهِّل على القارئ ويريحه من كثرة النظر إلى الهوامش التي تعوق انسيابية القراءة.

3. قدرته على التفريق بين الكلمات المتشابهات في الرسم الكتابيّ وبيان فروقاتها ضمن سياقها المكتوبة فيه، مثل حديث لوريمر عن أصل أسرة الصباح أنَّهم من عنيزة، فنجد الزيد يذكر في هامشه أن «الصواب هو عنزة وهي قبيلة كبيرة، أما عنيزة فهي بلد في القصيم من أقاليم نجد، وكثيرًا ما يرد في الكتاب اسم عنيزة ويقصد به عنزة القبيلة المعروفة».

4. إضافة كثيرٍ من المعلومات التي ذكرها المؤرِّخون الكويتيون من أمثال: عبدالعزيز الرشيد صاحب تاريخ الكويت، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي صاحب «صفحات من تاريخ الكويت»، أو حسين خزعل صاحب «تاريخ الكويت السياسي» وغيرها من المؤلفات، ممّا أثرى الفترة التاريخيّة بإضافاتٍ تفيد القارئ.

5. لا يكتفي الزيد في التعليق على بعض الأمور الخاصَّة بالشأن الكويتيّ، بل نجده يضيف أخبارًا ذات صلةٍ ببعض دول الخليج التي لها علاقاتٌ مع الكويت وذكرها لوريمر في دليله كالبحرين والسعودية.

6. غيرته على أناس ذلك الزمان الذين وصف لوريمر بعضهم بأنهم «برابرة»، فنجد الزيد يعلِّق في الهامش «إنَّ عدم التعليق على هذه العبارات الموغلة في التوحش والنذالة أجدى، وإلَّا فأيُّ حقدٍ أعمى يوحي بها ولا يكون بربريا».

7. تصحيح الحقائق التاريخية التي يعرفها أهل الكويت، وكتب عنها ثقاتهم مثل: الشيخ عبدالعزيز الرشيد أو الشيخ يوسف بن عيسى، وعدم الأخذ بالمزوَّر منه لتلميع صورة شخصيَّةٍ على حساب الحقيقة التاريخيَّة. (طالع: السفر التاريخي، ص135، الهامش رقم 3).

8. تصويبه لبعض الكلمات والكيفية التي تُنْطَقُ بها عند مستخدميها الأصليين، مثل الكيفية التي تورد فيها اسم قبيلة معينة مثل: العجمان، فنجد لوريمر يوردها من غير «ال» التعريف، مما يخلُّ بالنطق الصحيح لها لدى سكّان الكويت.

9. نجد الزيد يصحّح بعض الأخطاء، لا سيما فيما يخصُّ أسماء العائلات والمناطق، فيصوِّبُها من دون ذكر ذلك في الهامش حتى لا يثقل الكتاب بكثرة الهوامش. (طالع: السفر التاريخي، ص192، الهامش رقم 8).

10. يذكر الزيد في مقدمة السفر الجغرافي أن «أشق ما صادفني في هذا السفر الجغرافي تحقيق أسماء المواقع والمواضع التي تُرجِمَت مُصَحَّفَةً أو مُحَرَّفَةً تحريفًا لا يهدي إلى حقيقتها... وأنَّ كثيرًا من المواقع التي أشار إليها المؤلِّف قد اندرس اسمه وانطمس رسمه اليوم، فلا هو على الخرائط مذكور، ولا هو في ذاكرة الناس موجود»، ويضرب الزيد مثالا على تلك المشقة بـ«خور سالم» الذي يُعرَفُ اليوم بخور عبدالله، بالإضافة إلى عشرات الأسماء لمواضع وتضاريس، لذلك نجده يشكر المرحومَين الشاعر عبدالله عبدالعزيز الدويش ومبارك محمد السليطي اللَّذين ساعداه في تصويب بعض أسماء المواضع، وإرشاده لبعض المراجع التي استفاد منها في تحقيق كتاب لوريمر.

11. يذكر الزيد أنه أهمل ذكر القبائل، «فلم نجعل لها فصلًا خاصًّا بها رغم أنَّها عاملٌ مشتركٌ كمهنة الغوص في الخليج... وما أغفلتُ ذكر هذه القبائل عبثًا، لكنِّي رأيت أنَّ المادة المسطَّرة عنها عند لوريمر بحاجة إلى شيءٍ من التهذيب، فمعلومات المؤلِّف في بعض جوانبها غير دقيقة، ثم إنَّ هذه المادة بحاجةٍ لما يضاف إليها، وهو بقدر حجمها حتَّى تربط بقائمها وقديم نشأتها».

12. هناك عديدٌ من الأفكار المستقبليَّة التي ضمَّنها الزيد مقدِّمَتَي السفريْن التاريخي والجغرافي بالإضافة إلى ما ذكره في هوامش الكتاب، من بين هذه الأفكار أنْ تنحوَ دول المنطقة ما قام به، فتستخرج كلُّ دولةٍ المادَّةَ الخاصَّة بها، وفي ذلك تيسيرٌ للباحثين، وقد استجاب مجموعةٌ من الباحثين لتلك الدعوة فاستخرجت مادَّة بلادهم من كتاب لوريمر.

13. يقرُّ الزيد بعدم معرفته - وهو نادر جدًا في السفريْن - إذا مرَّ على اسمٍ ما لم يعرف له واقعًا فيما قرأ أو يعرف. (طالع: السفر الجغرافي، هامش 41، ص 44).

14. من المعلومات الطريفة التي أفدتها بوصفي أستاذًا بجامعة الكويت، وقد انتقلت كلِّيَّتُنا إلى مدينة صباح السالم الجامعية بمنطقة الشدادية، أنِّي عرفت أصل الاسم، فلوريمر يسمِّي المنطقة «جدادية»، فيعلِّق الزيد في هامش (42) من السفر الجغرافي قائلا: «جدادية تلفظ جيمها فارسيَّة بثلاث نقط، وقد تلفظ بالشين فيقال شداديَّة، وأصلها قتاديَّة نسبةً إلى شجر القتاد».

15. يشير الزيد في هامش رقم (8) في الفصل الثاني الخاص بالمناطق والقرى والجزر والخلجان من السفر الجغرافي إلى أن ديكسون ينقل عن لوريمر دون أن يشير إليه، وهذا الحرص على الأمانة العلمية يعرفه جيدا من جالس الزيد، ولعلَّ سبب عدم ذكر ديكسون للوريمر في كتاباته - كما نبهني الصديق الدكتور عباس الحداد - أنَّ كتاب لوريمر كان لا يزال سريًّا ومحظور التداول للعامة في زمن تأليف ديكسون لمؤلفاته، لذلك فهو يمتحُ منه لكونه أحد السياسييّن المخوَّلين بالنظر في كلِّ المؤلَّفات الخاصَّة بالمنطقة.

16. يُطيلُ الزيد أحيانًا في بعض الهوامش فيضيفُ وينقلُ من كتبٍ متخصِّصةٍ ما يجعل المادَّة العلميَّة التي تناولها لوريمر أكثر وضوحا للقارئ العربيّ، كما فعل مع المادَّة الخاصة بمهنة الغوص، فالزيد ينقل عن كتاب الصيد والتنقُّل لعبدالوهاب القطامي، وكتاب تاريخ الكويت لعبدالعزيز الرشيد، مادَّةً خصبةً ومطولةً خاصَّةً بالأدوات التي يستعملها الغواص، والوسائل التي يتوصَّلون بها إلى قعر البحر.

وبعد، ، ،

فها هو خالد سعود الزيد عبر رصده للحركة الفكريَّة في الكويت مؤرِّخًا، وتحقيقه وتعليقه على كتاب دليل الخليج للوريمر في سفريه التاريخي والجغرافي شارحًا، وكما لحظنا من هوامشه على الكتاب، ها هو يعطينا درسًا بليغًا خالصًا: أنَّ قراءة التاريخ لا ينبغي أنْ تُترَكَ من دون تحقيق، وأنَّ ما يكتبه الآخر الأجنبيُّ عن بلادنا علينا أنْ نأخذَه عند النشر وفق واقعنا الآني المعيش، وأنَّ الإنسان كائنٌ مستقبليُّ التوجُّه، وأنَّ المستقبل هو الذي يُنظِّمُ علاقاته بالتاريخ، وهي علاقاتٌ وإنْ بَدَتْ متباينةَ القسماتِ والملامح، إلا أنَّها مشدودةٌ أبدًا بعضها إلى بعض، ناطقةٌ أبدًا في صراحة المغزى، وصدق النبرة بالدعوة إلى البناء.