يبدو أن المحاولات الحكومية الرامية إلى تكبيل المجتمع المدني والتغوّل على صلاحياته بتحويل منظّماته من جهات ذات شخصيات اعتبارية مُستقلة، إلى تابعة أو مُلحقة تكون للحكومة الذراع الطولى في تحديد مسارها ورسم سياساتها، لا تزال مستمرة، بغية «تدجين» هذه المؤسسات وفرض الوصاية على مجالس إداراتها وسحب صلاحياتها والعمل على التحكم فيها.
فبعد التعميم الذي وزعته أخيراً وزارة الشؤون الاجتماعية، على مجالس إدارة «النفع العام» والقاضي بـ «منع أي جمعية مرخّصة من إقامة أي نشاط إلا بموافقة مسبقة منها»، والذي أثار حفيظة الجمعيات حينذاك وحض منتسبيها والقائمين عليها على إصدار بيان يرفضون خلاله هذا التعميم رفضاً باتاً، عادت الوزارة مجدداً إلى محاولات الهيمنة وبسط السيطرة على المجتمع المدني من باب تعديل الأنظمة الأساسية لمنظماته لتتوافق مع نظام أساسي أعدته سلفاً مدّعية أنه «نموذجي» مُلزمة الجمعيات باتباعه والتحرك في فلكِه فقط، في محاولة لاستنساخ صور متشابهة متكررة من هذه المنظمات رغم اختلاف الأهداف التي أشهرت من أجلها وعدم تطابق أعمالها.
هذه المحاولات الحكومية المتجددة تهدف إلى كسر خط الدفاع الأول عن الحقوق والحريات العامة في البلاد، عبر تقييد أعمال منظمات صاحبة باع طويل وتاريخ ناصع مشهود له في مجالات العمل الاجتماعي والإنساني والسياسي أيضاً، والتي كانت ولا تزال عائقاً في مواجهة أي تحرك حكومي من شأنه النيل من مساحة الحرية والديموقراطية أو الحقوق التي كفلها الدستور، فمثل هذه التعاميم منافية لأبسط حقوق وحريات الرأي والتعبير المكفولة دستورياً، لاسيما في المادتين 30 و35 من الدستور.
وبالعودة إلى «النظام الأساسي» الذي عممته «الشؤون» أخيراً على مجالس إدارة الجمعيات، فإنه يتضمن 49 مادة معظمها يبدأ بعبارات مثل «لا يجوز»، و«يحظر»، و«لا يحق» وغيرها من كلمات التهديد والوعيد، إضافة إلى بعض المواد الأخرى التي تعد تدخلاً سافراً في أعمال الجمعيات وتُلزم مجالس الإدارة بتعديل عدد الأعضاء ليكون فردياً فقط! وتحديد تواريخ بدء وانتهاء السنة المالية للجمعية وتغيير المواقيت المحددة خلال عقد الجمعية العمومية في حالة عدم استيفاء النصاب القانوني المُحدد لصحة الانعقاد، فضلاً عن بعض المواد التي تتدخل مباشرة في الأمور المالية الخاصة بالجمعيات أو المعنية بشؤون العضوية داخلها، مما يترتب عليه سلب صلاحيات هذه المجالس وتقليص مساحات عملها وتطويق قدراتها بما لا يسمح بأداء دورها على النحو المرجو بكل حرية وموضوعية.
ويؤكد المراقبون أن إصدار مثل هذه التعاميم غير الحصيفة أو المدروسة سلفاً دون الاستئناس برأي أصحابها المعنيين، أمر مستغرب يثير التساؤلات وعلامات الاستفهام، ويهدد ليس حرية منظمات المجتمع المدني فحسب، بل ينعكس وبالاً على مؤشرات الديموقراطية عموماً وصورة البلاد إقليمياً ودولياً خصوصاً، مهيبين برئيس مجلس الوزراء، ووزير الشؤون التدخل العاجل والسريع ووقف مثل هذه التعاميم اللا مسؤولة حيث لا طائل إيجابياً منها، بل تضر بالعمل العام أكثر ما تفيد أو تنفع.