ما قل ودل: «طوفان الأقصى» ملحمة القرن... نقل القضية الفلسطينية من الفنادق إلى الخنادق
بعد أن صار الجهاد إرهابا، وأصبح الاحتلال استثماراً، وغدا الدفاع عن النفس عدوانا، وتحول اليأس قنوطا، بعد أن فقدنا الأمل والرجاء في شعب لم تلن له قناة، ولم تضعفه رغبة أو تثنه رهبة من الترسانة العسكرية الإسرائيلية، والتي تعضدها الترسانة العسكرية الأميركية، وغياب الوعي الغربي بعدالة القضية الفلسطينية وعدم مبالاته بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه، وشرد في الشتات منذ عام 1948، بعد كل هذا لا يزال يتعرض في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة في غزة والضفة لحرب تجويع وقتل وتشريد وإبادة من الآلة العسكرية الإسرائيلية ليخوض ملحمة القرن «طوفان الأقصى» للاعتراف بحقه في الحياة وحقه في الحرية، وهو الحق الذي يتنادى به الغرب وينكره على الشعب الفلسطيني.
واعترف شاهد من أهلها
والاعتراف سيد الأدلة، كما نقول نحن رجال القانون، فقد كتب جدعون ليفي: الكاتب والمفكر اليهودي في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في الثامن من أكتوبر الجاري: «منذ 1948 وإسرائيل تعاقب غزة.. إنه يكفي مهاجمة غزة بين المرة والأخرى بالطائرات الانتحارية بدون طيار.. تطلق النار على الأبرياء.. نقتلع عيونهم.. ونهشّم الوجوه.. نرحلهم، نصادر أراضيهم وننهبهم.. ونخطفهم من أسرهم، ونقوم بتطهير عرقي، نواصل الحصار غير المعقول على غزة، وكل شيء سيكون على ما يرام.. نواصل احتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين، ومن بينهم أسرى بدون محاكمة، وأغلبهم سجناء سياسيون، ولا نوافق على مناقشة إطلاق سراحهم حتى بعد عقود في السجن، ونقول لهم إنه فقط بالقوة يمكن لأسراهم أن يحصلوا على الحرية، نواصل دون تشويش، نعتقل، نقتل.. نسيء معاملة.. نسلب.. نحمي مستوطِني المذابح.. وعلينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين، ولكن علينا أيضاً أن نبكي على غزة التي معظم سكانها لاجئون خلفتهم أيدي إسرائيل، غزة التي لم تعرف يومًا واحدًا من الحرية».
ملحمة الأقصى والرد الوحشي
وجاءت ملحمة القرن «طوفان الأقصى» لتوقظ العالم كله على الحقيقة التي غابت عنه، وهو أن شعبا يعاني انتهاك حقوق الإنسان، أغفلته منظمات حقوق الإنسان الغربية، التي تخضع مثلها مثل دول العالم العظمي لتأثير اللوبي الصهيوني المتغلغل في مراكز القرار فيها، والذي يؤثر على نتائج انتخابات شعوبها، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي أعلن رئيسها بايدن دعمه العسكري اللا متناهي والسريع لإسرائيل لإبادة شعب بشيوخه وأطفاله ونسائه، وهو لا يعدو أن يكون حلقة من حلقات مسلسل الإبادة الذي كان نهجا لإسرائيل منذ نشوئها، يقابله صمت دولي، أو مباركة من المجتمع الدولي تحت عباءة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسه.
صفقة القرن
فكان إعلان بايدن بالدعم السريع لإسرائيل بأحدث الأسلحة المتطورة، بل التهديد بالتدخل المباشر لحماية أمنها، بإرسال حاملة طائرات إلى البحر الأبيض المتوسط، وحاملة طائرات أخرى في طريقها إليه، أمراً متوقعا، تمهيداً لصفقة انتخابية، للحزب الديموقراطي مع اللوبي الصهيوني في أميركا لإعادة انتخاب بايدن رئيسا لأميركا، والحزب الجمهوري يلهث ويزايد على الديموقراطية، وبعض أعضائه وشيوخه يطالبون بإبادة غزة عن آخرها، لعقد صفقة أخرى مع اللوبي الصهيوني، تتيح لترامب العودة الى رئاسة أميركا، في مسلسل الصفقات الانتخابية المعهودة في الانتخابات الرئاسية.
وليست الصفقات الانتخابية التي تجري في كل الانتخابات الرئاسية هي التي أطلقنا عليها صفقة القرن، بل ما نقصده بصفقة القرن هي تلك التي أطلقها ترامب إبان فترة رئاسته، التي ابتداعها مستشاره وصهره باستثمار أموال الخليج في إسرائيل والضفة الغربية المحتلة بعد أن استنزف ترامب بعضها في عملية ابتزاز للحكام العرب بدعوى أن أميركا تقوم بحمايتهم من شعوبهم، وظاهر الصفقة المكشوفة المشبوهة، الرحمة بالعمال الفلسطينيين الذين سيتدفق الاستثمار الخليجي عليهم في إسرائيل والأرض المحتلة، والتي ستدر عليهم الخير والرفاء بدلا من حلمهم بالسفر الى الخليج، وهو الفتات الذي قال به مقال جدعون ليفي، في تصاريح العمل التي تصدر للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، «فتات الأيتام على موائد اللئام»، وهي صفقة ستريح الحكام العرب بل العالم كله من صداع القضية الفلسطينية! بتصفيتها نهائيا، وبأموال العرب، وليدفع الشعب الفلسطيني الثمن باهظاً، اعترافا بسيادة إسرائيل على أرض فلسطين كلها، وعلى غور الأردن (الأراضي الفلسطينية المتاخمة للمملكة الأردنية الهاشمية) وعلى غزة، وعلى الطرق التي تربط الضفة بعضها ببعض وبغزة، وليتحول حل الدولتين، إلى كانتونات للفلسطينيين معزول بعضها عن بعض وعن غزة، وذلك من خلال شركات الأمن الإسرائيلية التي ستؤسس بأموال هذه الاستثمارات لتضم جنود الاحتلال، لتتعافي إسرائيل حتى من مرتبات جنودها! الذين سيكونون في نقاط الأمن والتفتيش بين هذه الكانتونات وداخلها لحماية هذه الاستثمارات من الفلسطينيين، وهي شركات أصبحت سمة هذا العصر بعد أن تخلت الحكومات عن مسؤولياتها في حماية الأمن الداخلي، حيث تقتصر مسؤولياتها على حماية الحكام.
الدفاع عن النفس
كم هي سخيفة هذه العبارة التي تتلفظ بها حكومات الدول الغربية الآن في وصف عمليات إبادة شعب غزة بأسره، وهم لا يقيمون وزنا لأكثر من مدلولها اللفظي، إن مفهوم الدفاع عن النفس في هذا القانون، بقيام دولة برد الهجوم المسلح عليها من دول أخرى، باعتبارها الحرب المشروعة، لا يسري على الأراضي المحتلة، في مواجهة مقاومة الشعب المحتل للاحتلال، وهو ما أكدته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقرارها الصادر في 14/ 12/ 1974 أن «الاحتلال العسكري، ولو كان مؤقتا أو أي ضم لإقليم دولة أخرى كليا أو جزئيا عن طريق استخدام القوة هو عدوان مسلح يبرر طبقا للمادة الخامسة من ميثاق الأمم المتحدة استخدام الدولة المحتلة لحق الدفاع الشرعي» (15/ 12/ 2002).
وعلى العموم فإن الدفاع عن النفس في القانون الدولي يجب أن يكون متناسبا وبالقدر الضروري بوقف الهجوم المسلح حتى يتخذ مجلس الأمن قراره بالتدابير اللازمة، لرد هذا الهجوم، ولا يدخل الانتقام بأي حال من الأحوال في مفهوم الدفاع عن النفس، طبقا للقانون الدولي العام، فلا يندرج في هذا المفهوم سفك دماء الفلسطينيين وقتلهم، وهدم منازلهم ليحل محلها المستوطنون الإسرائيليون، واعتقال الأبرياء وسجنهم دون محاكمة، وقد كان الدفاع عن النفس هو الضوء الأخضر للآلة الإسرائيلية لمذبحة جديدة لشعب غزة وهدم هذه الآلة للأبراج السكنية والمساجد والمستشفيات، ووكالات غوث اللاجئين الدولية، وهي مذبحة أشد ضراوة من مذبحة غزة، في يوليو 2014، والتي أنزلتها الآلة الإسرائيلية عقابا لغزة على خطف ثلاثة جنود إسرائيليين، انتقاما لخضير الطفل البريء الذي اختطفه مستوطنان، أثناء سيره على الأقدام لأداء صلاة الفجر ثم أحرقاه حياً، وفقا لتشريح الجثة في تقريري طبيبين إسرائيليين، كان معهما في هذا التشريح طبيب فلسطيني، فلا صلة في كل هذا لمفهوم حق الدفاع عن النفس في القانون الدولي.
وقد صمت المجتمع الدولي عن كل اختراقات إسرائيل لاتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة سكان المناطق المحتلة، من خلال هدم بيوت الفلسطينيين من إجبارهم على تركها بقرارات قضائية، وفرض إجراءات قاسية وتأديبية على السكان العرب، وأن القرار الوحيد الذي أصدره مجلس الأمن في 28/ 9/ 1968 بإجراء تحقيق في الظروف التي يلقاها العرب في الأرض المحتلة، والذي امتنعت عن التصويت عليه كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والدنمارك والذي صدر في أعقاب رسالة بعث بها 85 من المفكرين الإسرائيليين تكشف سوء المعاملة التي يلقاها العرب في الأراضي المحتلة، لم تكن إلا ذراً للرماد في العيون، وإسرائيل سادرة في غيها وفي إجراءاتها الانتقامية والتعسفية لإبادة الشعب الفلسطيني بتعضيد ومساندة أميركا ومن يحذو حذوها من الدول الأوروبية.
وأخيراً وليس آخراً فإن الدماء التي سالت في غزة والضفة لن تضيع هباء، بل هي تروي أرض النضال والكفاح للشعب الفلسطيني الصامد والمصر على استرداد أرضه، وسيكون الحصاد كبيراً، وقد نقلت «طوفان الأقصى» من الفنادق إلى الخنادق.