بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، قالوا وقالوا كثيراً وكثيراً، بل لم يتوقف الكلام وأهل غزة وفلسطين يُنحرون بل يبادون أمام كاميرات محلية وعربية ودولية معظمها غير محايد بل منحاز حتى النخاع، حتى تلك التي تبدو في مظهرها الأول وكأنها قد عملت جهداً جباراً لتعمل بمقولة مقيتة سموها «النأي بالنفس»!!! وهو ما يحاول المنحازون أن يخدعونا به، ولا يختلف عنه أولئك المؤمنون أو المحاولون التظاهر بشكل من أشكال «العقلانية»، أي أنهم العقلاء فيما الرؤوس «ساخنة» ربما لكثرة القتل الفلسطيني الذي تحول إلى وجبة يومية اعتيادية.
أيام مليئة بالتحاليل والاتهامات والمؤامرات أو نظريات المؤامرة والتبريرات وبعض الفلسفة التي ليس هذا وقتها ولا زمانها، فهي لحظة تاريخية حتما، وربما طال انتظارنا لننهي كثيراً من الجدل الذي دار على مدى أكثر من سبعين عاما في محاولة لتبرير هزيمتنا بل نكبتنا الكبرى، وربما نحن مقبلون على نكبة جديدة إذا لم نتصارح ونقف عند النقاط المفصلية ببعض الشجاعة وشيء من الكرامة وكثير من الحقائق التي تنسى في أجواء من العواطف أو الغضب أو الحقد والكراهية عندما تشهر سيوفها علنا، بينما كانت متدثرة في عباءات من عبارات مفزلكة مثل تعبير «حماية المدنيين» و«حقوق الإنسان» و«احترام حق الآخر في الرأي والرد».
وهناك كثير ممل قيل وما لبث السابع من أكتوبر أن كشفه على الملأ، فخلعت كل الجدران والمساحيق وانكشف الغرب «الديموقراطي» المدافع عن حقوق الإنسان المتساوية لكل البشر والغرب الذي كرر على مسامعنا أنه يحترم الآراء ولا ينكل بمن يختلفون معه، وما لبث أن سقط مع أول طائرة شراعية وعشرات بل مئات من المقاتلين المؤمنين بقضيتهم عندما هدموا الجدار وكسروا ذاك الحاجز الذي تم بناؤه بعناية وحقد صهيوني ومساعدة غربية وعربية على مدى سنين!!
كسر الجدار سواء كان رأي البعض أنها مؤامرة إيرانية بأيدي حماس والجهاد وحزب الله وآخرين من العرب وغيرهم، أو إذا تحدث بعض من يسمي نفسه «عقلاء العرب ومفكروها» بأنه كان هجوماً مباغتاً ومهماً لكنهم، أي أولئك الذين تديرهم المؤامرة، لم يقدروا حجم ردة الفعل الإسرائيلية، نعم في رأي بعض الجالسين في القاهرة والرياض وأبوظبي وغيرها من الكتاب أن الفلسطينيين وخاصة الغزاويين منهم لا يعرفون إسرائيل وقدراتها وإمكاناتها.
هم سجناء أكبر سجن على وجه الأرض في آخر دولة فصل عنصري في العالم، وهم الذين لا تزال أمهاتهم وجداتهم يحكين لهم النكبة وما تبعها من مجازر ارتكبت معظمها من عصابات صهيونية، وربما مفيد أن نتذكرها أو نذكر ببعضها لا كلها، فقوائم جرائم الصهاينة أكبر من أن يتحملها مقال أو حتى مجلد: مجزرة بلد الشيخ من قبل جماعة الهاغاناة في ديسمبر 1947، ودير ياسين أبريل 1948، وبعدها بشهرين مجزرة الطنطورة، ثم أبوشوشه وقبيه في 1953، وقلقيلية في 1956، وكفر قاسم في أكتوبر 1956، وخان يونس في العام نفسه، ولم يتوقف الذبح العلني للفلسطينيين من نساء وأطفال وشيوخ عند تأسيس ذاك الكيان المسمى إسرائيل، بل استمر وامتد ليطول الفلسطينيين في كل مكان في صبرا وشاتيلا وفي الأقصى في 1990، وبعدها الحرم الإبراهيمي في فبراير 1994، وجنين أبريل 2002 والقائمة طويلة بطول صبر وعزيمة الفلسطينيين وعزمهم وإيمانهم بحقهم في وطنهم المغتصب.
أما غزة فكان لها نصيبها الأكبر من المجازر المتكررة (المجازر المسجلة هي 51) لذلك فما يحدث ليس غريباً على الصهاينة وعصاباتهم التي يصورها البعض، حتى مما يسمى «المفكرون العرب»، على أنهم مدنيون عزل في حين تغص المستوطنات بصهاينة عنصريين ومسلحين في لبس مدني فيما المدنيون الفلسطينيون الذين يقتلون في غزة وكل فلسطين بدم بارد هم من المدنيين العزل وذنبهم الوحيد أنهم لم يجدوا بقعة أرض يلجؤون إليها إلا غزة، فمعظمهم وبالتحديد 66% منهم هم لاجئون من مدن وبلدات فلسطينية عدة ينظرون لها من بعيد خلف السور الذي وضعهم في هذا السجن الكبير المفتوح، ويتطلعون الى يوم يجلسون فيه تحت شجرة البرتقال في حديقة بيتهم التي يسكنها الآن صهيوني متعصب في معظم الحالات!!
الأرقام هي أكبر دليل على بشاعة نظام الفصل العنصري هذا، وهنا بعضها فقط للتذكير لا كلها، فهناك مليون حالة اعتقال أو أكثر منذ 1967، وفي عام 2014 قتل أكثر من 2240 فقط من أهل غزة معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ رغم أن الحق في الحياة لا يتوقف عند عمر أو جنس أو عرق.
هناك استمرار لتهويد القدس وطرد سكانها ومحو الآثار المسيحية والإسلامية فيها الى جانب احتلال المستوطنين بيوت الفلسطينيين وطردهم منها إضافة لبناء 10000 مستوطنة أو أكثر فعملية بناء المستوطنات مستمرة.
وفي حين نخشى نحن في صحفنا ومحطات التلفزيون أن نخطئ في رقم أو إحصائية تفننت القنوات التلفزيونية الأميركية والأوروبية في نشر الأكاذيب حتى سقط القناع حقاً، ولم أعد تصور أن أحدنا سيستقي أي معلومة منذ الآن من الـ«بي بي سي» بكل لغاتها أو الـ«سي إن إن» أو «جرائد التايمز» و«الإندبندنت»، كلها بل كلهم كذبوا وعلى صفحاتهم الأولى بشكل لا يمكن وصفه إلا ببشاعة الكراهية والعنصرية وكثير من الخوف ربما.
بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله لأن كثيراً من الأقنعة انكشفت إلا لمن لا يريد أن يراها وكذلك اتضحت مخططات كانت حتى وقت قريب محصورة في اجتماعات مغلقة، وكثير من المسؤولين العرب، مع الأسف الشديد، كانوا على علم ومعرفة، لكن السابع من أكتوبر أسدل الستار وكشف المستور، فقد تسرب الكثير ولا نزال ننتظر أن نعرف أكثر، ربما اقتنع البعض فتوقف عن ترديد الأكاذيب والأقاويل أو التصور أن فلسطين قد انتهت كقضية شعب وكأرض ووطن مسلوب، ربما لأن بعضهم التحق باتفاقيات أبراهام وكانت نشوة فرحة التوقيع قد حجبت بأضوائها الواقع التاريخي ان لا حل هنا سوى باعادة الارض لاصحابها لم تنفعهم كل الاتفاقيات في إقناع الصهيوني بأن هناك سلاماً تعايش ممكنين.
الدولة الصهيونية العنصرية نفسها الطامحة في كل الأرض وما عليها وما تحتها، فلا تنسى النفط والغاز وخطط ترسم من هنا وهناك في مجموعات تبدو على أنها تقوم بتنمية شاملة للمنطقة، ودمجها مع العالم، في حين تبقى إسرائيل هي المستفيدة الوحيدة... بعد السابع من أكتوبر سقطت كل الأقنعة إلا لمن لايزال يختفي خلف الغربال الواهي.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.