هل حسم التوتر في الشرق الأوسط مكانة الأصل الآمن؟
دخلت الاشتباكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة أسبوعها الثاني، مع استمرار تدافع المستثمرين إلى حيازة الأصول الآمنة خوفاً من تداعيات الأزمة، ومع حفاظ الذهب على مكانته التاريخية كأداة تحوط رئيسية من المخاوف الجيوسياسية، فشلت «بتكوين» في استغلال الأزمة الأخيرة مع تعرضها للهبوط خلال الأسبوع الماضي.
الذهب يلمع وسط الصراع
وحققت أسعار الذهب ارتفاعات قوية في الأسبوع الماضي لتستعيد مستويات 1900 دولار، مع تدافع المستثمرين إلى حيازة الأصول الآمنة، وصعدت العقود الآجلة للذهب تسليم ديسمبر بنسبة 5.2% في الأسبوع الماضي، لتسجل أكبر مكاسب أسبوعية منذ مارس.
وفي تعاملات الجمعة الماضية وحدها، ارتفعت أسعار الذهب 3.1% أو ما يعادل 58 دولارا دفعة واحدة لتسجل 1941.50 دولارا للأوقية، وكان الصعود المسجل الجمعة لأسعار الذهب الأكبر من حيث النسبة المئوية منذ بداية ديسمبر الماضي، بحسب بيانات «داو جونز ماركت»، وشكل الصعود الأخير للذهب تعافياً ملحوظاً للمعدن، حيث انخفض من 1967 دولارا للأوقية في 20 سبتمبر إلى 1823 دولارا خلال تعاملات 6 أكتوبر الجاري.
وارتفاع أسعار الذهب جاء في إطار اتجاه المستثمرين حول العالم للاحتفاظ بالأصول الآمنة، مثل المعدن الأصفر والفرنك السويسري والسندات الحكومية، ويتمثل الأمر الأبرز في صعود المعدن في أنه تزامن مع عودة الموجة الصاعدة لمؤشر الدولار، رغم أن العلاقة بين المعدن والعملة الأميركية عادة ما تكون عكسية.
ويرى المدير الإداري لشركة «إس بي إي أسيت مانجمنت» ستيفن إينيس أن الأحداث في الشرق الأوسط أصبحت في بؤرة الأحداث، وتتجاوز المخاوف والمناقشات السابقة في الأسواق.
وذكر مدير تداول المعادن في «هاي ريدج فيوتشرز» ديفيد ميجر أنه بصرف النظر عن الصراع، فإن توقعات الأسواق تشير إلى أن بنك الاحتياطي الفدرالي لن يرفع معدلات الفائدة في اجتماع نوفمبر، وهو ما يقدم الدعم أيضا للذهب. وتشير أداة «فيد واتش» إلى احتمالية تقارب 69% لتثبيت معدلات الفائدة الأميركية هذا العام.
وضع مختلف للعملات المشفرة
وأضاف إينيس أن هناك عبارة شهيرة في سوق الذهب، وهي ألا تترك أبدا أزمة جيدة بدون الاستفادة منها، وهو ما ثبتت صحته خلال التطورات الأخيرة، لكن هذه العبارة لا يمكن أن تمثل سوق العملات المشفرة، الذي فشل في الاستفادة من التوترات الأخيرة، رغم اعتبارها من جانب بعض المحللين بمنزلة «ذهب رقمي» وأداة للتحوط في حالات عدم اليقين.
وانخفضت «بتكوين» – أكبر عملة مشفرة من حيث القيمة السوقية – بنحو 5% خلال الأسبوع الماضي، لتسجل أول هبوط أسبوعي في 6 أسابيع، وفقد سوق العملات المشفرة نحو 50 مليار دولار من قيمته السوقية في الأسبوع الأول من الاشتباكات، ورغم الهبوط لا تزال «بتكوين» مرتفعة بأكثر من 60% منذ بداية العام الجاري.
وفشل العملات المشفرة في التصرف باعتبارها أداة تحوط من التوترات الجيوساسية لم يكن حدثا جديدا، حيث شهدت «بتكوين» تراجعا مماثلا في أزمات سابقة، ففي فبراير 2022، تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في خسارة «بتكوين» ما يصل إلى 7% في يوم واحد، قبل أن تتعافى لاحقا.
ورغم أن بعض المهتمين بسوق العملات المشفرة ينظرون إلى هذه الفئة من الأصول على أنها بمنزلة أداة تحوط من عدم اليقين، فإن آخرين يعتبرونها بمنزلة أصول خطرة، لكن الواقع يشير إلى أنه حتى الأصول الخطرة لم تتعرض جميعها للخسائر خلال الأسبوع الماضي، حيث حققت بعض أسواق الأسهم ارتفاعات بدعم تراجع عوائد السندات الحكومية.
وسجل مؤشر «داو جونز» للأسهم الأميركية ارتفاعا بلغ 0.8% في الأسبوع الماضي، بينما تراجع «إس آند بي 500» بنحو 0.5% في نفس الفترة، في حين حقق «ستوكس 600» للأسهم الأوروبية صعودا بنحو 1%.
لماذا تراجعت «بتكوين»؟
ولم تنجح العملات المشفرة منذ تدشينها بعد الأزمة المالية العالمية في 2009 في فرض مكانتها كمخزن للقيمة، مع التقلبات الحادة في أسعارها، ووصلت «بتكوين» لمستوى قياسي يتجاوز 65 ألف دولار في نوفمبر 2021، قبل أن تتهاوى بشكل حاد في العام الماضي، ثم تشهد حالة من التعافي هذا العام لتتداول قرب 27 ألف دولار حاليا.
وقال رئيس وحدة الأصول الرقمية في «ناين بوينت بارتنرز» أليكس تابسكوت إن ظروف الاقتصاد الكلي تهيمن على سعر «بتكوين» في المقام الأول حالياً، مع مخاطر الركود التي تحيط بالاقتصاد العالمي، مضيفا أن وجود حرب في الشرق الأوسط وأخرى في أوروبا، إضافة إلى التوترات حول العالم، كلها تشير إلى وجود مخاطر في سوق العملات المشفرة.
كما اعتبر المؤسس المشارك لشركة «داتا تريك» نيكولاس كولاس أن سوق العملات المشفرة تضرر من تقارير أشارت إلى استخدام جماعات في الشرق الأوسط للعملات المشفرة لجمع أموال. وتسببت هذه التقارير في مخاوف بعض المتابعين في سوق العملات المشفرة من احتمالية تشديد السلطات التنظيمية العالمية للقيود المرتبطة بسوق الأصول الرقمية.
على جانب مواز، يعتقد المؤسس المشارك لشركة «إكس واي أو نيتورك» ماركوس ليفين أن الاضطرابات الناجمة عن الصراع في أوروبا والشرق الأوسط قد تجبر الاحتياطي الفدرالي على الحفاظ على معدلات الفائدة المرتفعة لفترة أطول، ما يضر بالأصول المشفرة. وبالفعل، أشار «الفدرالي»، في اجتماعه الأخير، إلى سياسة «معدلات فائدة مرتفعة لفترة أطول»، مع توقعات مسؤولي البنك بإقرار زيادة إضافية للفائدة هذا العام، وتأجيل عمليات الخفض المتوقعة في 2024.
هل يستمر تفوق الذهب؟
يبدو دور المعدن النفيس كأداة تحوط ضد التوترات الجيوسياسية ثابتا بشكل كبير، بالنظر إلى مكانته التاريخية كمخزن للقيمة. تاريخياً، حقق الذهب ارتفاعات قوية خلال فترات الحروب، حيث صعدت أسعاره بشكل حاد إبان صراعات مثل حرب الخليج وأحداث 11 سبتمبر وحتى الحرب الروسية الأوكرانية.
وقال كبير محللي السوق في «أواندا OANDA» إدوارد مويا إن المستثمرين يفرون إلى الملاذات الآمنة، مع تزايد التوترات في الشرق الأوسط، موضحا أنه في حال أصبح الوضع الجيوسياسي أكثر قتامة فهناك احتمالية لصعود الذهب لمستويات 2000 دولار للأوقية هذا العام، لكن بعض المحللين لا يرون أن الاتجاه لحيازة الذهب خلال عدم اليقين المرتبط بالأزمات الجيوسياسية بمنزلة الفكرة الأفضل دائما.
ويرى محرر «جولد نيوزليتر» برين لوندرين أنه ينصح دائما بعدم شراء الذهب بناء على الأزمات الجيوسياسية، معتبرا أن ذلك بمنزلة لعبة خاسرة في معظم الأوقات، مضيفا أن الذهب يعد وسيلة للتحوط ضد القضايا النقدية، خاصة ما يتعلق بالهبوط المستمر في قيمة العملات، لكنه لا يرى سببا منطقيا لشراء المعدن بسبب حدث جيوسياسي ما، سوى للرهان على أن المشتري سيكون قادرا على بيع المعدن بسعر أعلى لشخص آخر، وهو أمر من النادر أن يتحقق.
ويعتقد أنه لكي يستمر الذهب في الارتفاع، فإن الصراع الجيوسياسي يحتاج إلى أن ينجح في فرض تغيير في سياسة بنك الاحتياطي الفدرالي. على الجانب الآخر، يرى بعض المحللين أن العملات المشفرة أظهرت إشارات على الاستقرار مؤخرا، ما قد يشير إلى تعاف محتمل، وتمكنت «بتكوين» من التعامل مع صدمات سابقة مثل العقوبات الأميركية ضد روسيا عقب غزوها أوكرانيا، بعد هبوط قوي في بداية الأزمة.
ويجب الإشارة إلى أن تأثير الأحداث الجيوسياسية على سوق العملات المشفرة يعتبر معقد، ا وقد يتباين بناء على عوامل مثل حجم وطبيعة الصراع ومعنويات السوق بشكل عام ومستوى تبني واستحقاق العملات المشفرة في ذلك الوقت، بينما اعتبر المستثمر الشهير بول تيودور جونز أن الذهب و«بتكوين» خياران جذابان في الوقت الحالي، مع المزيد من المخاطر الجيوسياسية وارتفاع مستويات الديون الحكومية الأميركية.
وأوضح مدير صناديق التحوط أن البيئة الجيوسياسية الأكثر تهديدا في الوقت الحالي مع الوضع المالي الأضعف للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية يجعلان حيازة الأسهم خيارا غير جذاب، لكنهما يدعمان الذهب و«بتكوين» في الفترة المقبلة.