تتفاقم المخاوف في الفترة الأخيرة من حدوث أزمة في الأسواق المالية وتحديداً في الاقتصادات المتقدمة الكبرى، من ديون حكومية قياسية، وارتفاع معدلات الفائدة، والتكاليف المرتبطة بتغير المناخ، والإنفاق على الصحة والمعاشات التقاعدية مع ارتفاع نسبة المسنين. لتضاف الحروب الجارية عالمياً إلى تلك الضغوط.
وأدى ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي إلى مطالبة المستثمرين بزيادة التعويضات للاحتفاظ بسندات طويلة الأجل وحثّ صناع السياسات على توخي الحذر بشأن الوضع المالي العام.
وقال معهد التمويل الدولي، إن أكثر من 80% من الدين العالمي البالغ 10 تريليونات دولار في النصف الأول وهو مستوى قياسي عند 307 تريليونات دولار جاء من الاقتصادات المتقدمة.
ويرى أكثر من 20 من الاقتصاديين وصانعي السياسات السابقين وكبار المستثمرين لـ «رويترز» أن اقتصادات كل من الولايات المتحدة - التي كانت على حافة التخلف عن السداد في وقت سابق من الشهر الماضي، وإيطاليا وبريطانيا هي الأكثر إثارة للقلق.
ولا يتوقعون أن يواجه الاقتصادات المتقدمة صعوبات في سداد الديون، لكنهم يقولون إن الحكومات يجب أن تقدم خططا مالية ذات مصداقية، وتزيد الضرائب وتعزز النمو لإبقاء الموارد المالية تحت السيطرة. كما يعتبرون أن التوترات الجيوسياسية تزيد من تلك التكاليف.
وبحسب تقرير لـ «رويترز»، تزيد البيئة الهشة مع ارتفاع أسعار الفائدة وتقلص دعم البنك المركزي من خطر حدوث خطأ في السياسة، مما يؤدي إلى اضطراب السوق، كما حصل في أزمة «الميزانية المصغرة» في بريطانيا لعام 2022.
وقال كبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي الأوروبي، بيتر بريت، إنه في حين أن الديون لا تزال تبدو مستدامة، فإن التوقعات مثيرة للقلق، نظرا لاحتياجات الإنفاق على المدى الطويل.
بينما قالت كبيرة الاقتصاديين في صندوق التحوط «Point72 Asset Management»، صوفيا دروسوس، إن احتياجات التمويل المرتفعة وإزالة الدعم من البنوك المركزية تزيد من عدم اليقين بشأن التسعير من قبل المستثمرين.
الولايات المتحدة
لقد أضرت المشاحنات المتعلقة بالميزانية بمصداقية الولايات المتحدة، مما كلفها تصنيف AAA من الدرجة الأولى، ويتوقع راي داليو المستثمر الشهير ومؤسس صندوق التحوط «Bridgewater Associates» حدوث أزمة ديون أميركية.
في المقابل، قالت يلين لصحيفة وول ستريت جورنال الأسبوع الماضي، إن الحكومة ملتزمة «بسياسة مالية مستدامة» ويمكن تعديل الميزانية لضمان ذلك.
ومن المتوقع أن يرتفع صافي مدفوعات الفائدة الأميركية من 2.5% إلى 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2033 و6.7% بحلول عام 2053، وفقًا لتقديرات مكتب الميزانية بالكونغرس. لكن المقياس المفضل لدى يلين، الذي يتلخص في تعديل التضخم، يشير إلى مدفوعات أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي للفترة المتبقية من هذا العقد.
إيطاليا
تمثل ديون إيطاليا البالغة 2.4 تريليون يورو محور التركيز في أوروبا، حيث قال صندوق النقد الدولي إن الديون المرتفعة تجعل الحكومات عرضة للأزمات.
وقفزت علاوة مخاطر الديون هذا الشهر مع خفض النمو وزيادة توقعات عجز الميزانية. وحذرت شركة سكوب ريتنجز من أن إيطاليا قد تكون غير مؤهلة لبرنامج شراء السندات الحاسم من البنك المركزي الأوروبي.
وتتمثل نقطة التحول في احتمال خسارة إيطاليا لتصنيفاتها الاستثمارية. وتصنفها وكالة موديز أعلى بدرجة واحدة من «المخاطرة» مع نظرة مستقبلية سلبية.
ومن شأن ارتفاع نسبة الدين في روما مرة أخرى أن يزيد من احتمالية خفض التصنيف الائتماني. وقال جيم ليفيس من «إم آند جي إنفستمنتس» إن ذلك ينطوي على مخاطر «تداعيات كبيرة» على جنوب أوروبا.
وقال وزير الاقتصاد جيانكارلو جيورجيتي، إنه لا يخشى خفض التصنيف الائتماني، لكنه لا يستطيع استبعاده. «موديز» ستدرس الحالة الائتمانية لإيطاليا في نوفمبر.
وأدى انخفاض النمو إلى إبقاء الديون الإيطالية مرتفعة، وهو خطر في جميع أنحاء أوروبا وبريطانيا، حيث ستؤدي خطط التقشف إلى تقليص الاستثمارات العامة.
بريطانيا وأوروبا
ويرى كبير الاقتصاديين العالميين للدخل الثابت في «PGIM»، والمستشار السابق للرئيس الأميركي جو بايدن، ديليب سينغ، أنه «إذا لم تكن لدينا توقعات نمو أكثر إشراقاً في أوروبا، فإن حسابات القدرة على تحمّل الديون تبدو سيئة جداً».
وقالت وزارة الخزانة البريطانية، إنها تسير على الطريق الصحيح لخفض الديون وتنمية الاقتصاد من خلال إصلاحات كبيرة.
ويتوقع المكتب البريطاني لمسؤولية الميزانية أن ترتفع تكاليف الفائدة إلى 7.8% من الإيرادات بحلول 2027-2028، من 3.1% في 2020-2021، وهو ما يتفاقم بسبب الديون المرتبطة بالتضخم.
وحتى الإنفاق على الفوائد في ألمانيا ارتفع بمقدار 10 أضعاف منذ عام 2021 ليصل إلى نحو 40 مليار يورو. وقال الديوان الأعلى للرقابة المالية إن من غير المرجح حدوث أزمة، لكن تخطيط الميزانية سيواجه «تحديات كبيرة».
أزمة محتملة خلال العقد المقبل
تزيد الديون على 100% من الناتج المحلي في بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا. ومن المتوقع أن تتفاقم في ظل الشيخوخة وتغير المناخ والمخاطر الجيوسياسية مثل الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط والتي من شأنها أن تزيد ضغوط الإنفاق بشكل كبير في المستقبل.
وقال الأستاذ في جامعة كينغز كوليدج بلندن، كبير الاقتصاديين في مكتب مجلس الوزراء البريطاني خلال الأزمة المالية، جوناثان بورتس: «نحن بحاجة إلى المزيد من الاستثمار، وليس التقليل منه».
ويقوم الاتحاد الأوروبي بمراجعة قواعده المالية، ويعد حزب العمال المعارض في بريطانيا بالمطالبة قانونياً بمراجعة مكتب مسؤولية الميزانية لخطط الضرائب والإنفاق.
وشدد الاقتصاديون على أنه على الرغم من أن هذا أمر من الصعب «تقبّله»، فإن لا بد من زيادة الضرائب، خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، كما أن بعض التخفيضات في الإنفاق أمر لا مفر منه.