من حيث المبدأ وقبل الاندفاع بتقليب النوايا المستشري هذه الأيام، كلّنا مع قضية فلسطين وتحرير القدس، ونتعاطف مع الشعب الفلسطيني عموماً، وسكان غزة خصوصاً، لكنّ الوضع أكثر تعقيداً من الشعارات والهتافات، فمَن قد يبدو لكم «متصهيناً» اليوم قد يظهر لكم المستقبل صوابية موقفه، ومَن يبدو ثورياً ومتحمساً قد يكون هو عون الصهيونية بجهله واندفاعه، وكل ذلك يجري بمصاحبة أكبر عملية خلط للمواقف السياسية بالأوضاع الإنسانية البائسة، كما يريد لها بعض اللئام ليحشد بها أكبر عدد ممكن من الجماهير المتعاطفة.
تعاطفنا مستمر مع أهل غزة من قبل الطوفان ونترحّم على الشهداء ونلعن الصهاينة، لكن في ذات الوقت من الحق المشروع والطبيعي لأيّ كان أن يتساءل ويتشكك في كفاءة قيادة وقرارات قادة القضية لقضيتهم، وخصوصاً أن تجاربنا معهم - بدءاً من موقفهم المخزي من قضية غزو بلادنا الواضحة، وصولاً حتى اجتماعهم للصلح بالحرم المكي وقذفهم لمنافسيهم من شواهق بنايات غزة، وما بين وقبل وبعد ذلك الكثير مما لا يتّسع له المجال - لا تنبئ حتى الآن عن قدرة وجدارة فائقة لإدارة ملف قضيتهم الأكثر تعقيداً وتشعّباً.
إن كانت فلسطين قضية العرب، كما يتردد دائماً، فمن حق العرب في المقابل إبداء رأيهم بها وبأسلوب التعاطي معها والأخطاء المتتالية في إدارتها والإخفاقات في مسيرتها من قبل من يتولّى قيادتها، ومن دون تشكيك أو تخوين أو تصنيف أو إقصاء، إلا إن كان غاية المراد هو خلق قطيع تابع دافع فقط من دون منحه حق الكلام.
ومحاولات ترهيب وإسكات أصحاب الرأي المختلف التي يدفع بها بعض مَن يظنون أنهم بفعلهم هذا يدعمون القضية الفلسطينية هي أقرب للصهينة منها لفعل «التحرير»، وإن بدا أصحابها عكس ذلك، فبدلاً من محاولة الاستفادة من اختلاف الأفكار وتنوّعها وتفاعلها يلجأون لتكميم الأفواه، بحجة أن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة أو المقاومة أو القضية»، وتلك حيلة قديمة يستخدمها الطغاة - والإسرائيليون منهم - لا دعاة الحريات.
ثم مع الأسف الشديد أن الكثيرين ممّن يحاولون إخراس الآخرين أو يدفعون نحو إصدار قانون مطاط يجرّم التعاطف مع العدو ليسمع رأي نفسه فقط، لم تحرّكهم المذابح كما يصورون، ولا يعنيهم الإنسان ولا قيمة له أساساً عندهم، فمنهم مَن كان يبرر جرائم «داعش» و«القاعدة» و«طالبان» وقتلهم الآلاف، أو يصهين عن قتل وتشريد الملايين من الشعب السوري أو قمع تظاهرات الشعب الإيراني، وأطيبهم أو أغباهم مَن يدافع عن المجرم صدام حسين حتى الساعة، وما أهل غزة وكارثتهم إلا وسيلة لديهم للمزايدة وإشباع حب الظهور، ولتصفية الحسابات مع خصومهم والشعور بالتفوق الأخلاقي عليهم، وهم بالأساس لم يقدموا شيئاً سوى الصراخ ولبس الكوفية، وحتى هذه الطاقة الهوائية أهدروها في التصيّد لمخالفيهم ليخفّ ضغطها عن العدو الأساسي، ولم يسلم منهم حتى مَن لاذ بالصمت، فانتبهوا ولا تدعوا ثورجياً أو متأخوناً أو «متأيرناً» يزايد عليكم، وادعوا الله ألّا يتولى أمثالهم أمرنا ممّن يريدون قمع الآخرين وإسكاتهم لأنهم اختلفوا معهم في وجهة نظر سياسية عابرة حول قضية «تحرير» شعب آخر!