بصاصو المرور
بعجالة، لماذا هناك قانون يسمى بالإجراءات الجزائية؟ ولماذا يوجد ترادف بين دولة حكم القانون والتشدد في إعمال ذلك القانون من قبل السلطة المنوط بها تنفيذ القانون وتطبيقه؟ وكلما تقدمت دولة ما في مضمار المدنية والحضارة كانت سلطتها الحاكمة أكثر وعياً والتزاماً بقوانين إجراءاتها، والمعيار المستقر فيها «due process»، أي الإجراء الواجب اتخاذه لتطبيق النص الجزائي.
مبادئ مثل المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، أي أنه استنفد وسائل الطعن به، ونصوص من شاكلة لا يجوز تفتيش أو مصادرة حرية فرد ما إلا بإذن خاص (كمبدأ) من سلطة التحقيق، وعند اتهام فرد ما يجب مواجهته بالتهمة المنسوبة إليه ومحتواها، إلى غير ذلك.
إذن القصد من ذلك القانون، مثلما يدرك طلاب القانون في مهد دراستهم، هو الموازنة بين حق المجتمع في إيقاع العقوبة وضمان حقوق الفرد المتهم في الدفاع عن نفسه أمام سلطة التحقيق وحفظ كرامته.
آسف، أقولها مقدّماً لخوض المقال في مسألة تخصني، ففي مساء الأربعاء الماضي تلقيت اتصالاً هاتفياً من شخص لا أعرفه، ليقول لي المتصل: هل أنت حسن يوسف بن عيسى الجناعي (لم يقل القناعي كما هو مدون بالبطاقة... ربما وجدها أسهل له أن يقولها بالعامية) وتملك وانيت أزرق؟
أنا: نعم، ماذا تريد ومن تكون؟
هو: أعمل موظفاً في إدارة المرور، وهناك شكوى عليك ومطلوب مراجعة الإدارة.
أنا: أي شكوى ومن مقدمها وما موضوعها؟
هو: لا أعرف... أنا مهمتي إبلاغك بأن على السيارة شكوى وليس عليك شخصياً.
أنا: هههههه، السيارة التي تتحدث عنها لا تتكلم ولا تملك الشخصية القانونية حتى تحملها المسؤولية (تذكرت حينها في أيام الدراسة منذ زمن بعيد كان صاحب السلطة مثلاً يحبس أو يذبح الثور إذا نطح وقتل أو جرح فرداً) هناك قانون حدّد طرق الإبلاغ بالمخالفات والجنح والجنايات، في مخالفات المرور مثلاً هناك مخالفة مباشرة يوقف فيها رجل الشرطة المتهم المخالف لحظة المخالفة، أو غير مباشرة ترصدها كاميرا المرور ويجدها صاحب الشأن عند تجديد رخصة السيارة أو رخصة القيادة، أما غير ذلك فهو كلام فارغ.
انتهى الحوار الأراجوزي، واتصلت بصديق يعمل في منصب مهم بـ «الداخلية»، وأخبرته بالموضوع، وقام بالاتصالات ليعرف حقيقة الموضوع، وأخبرني هذا الصديق أن «الوانيت» المتهم يصدر أصواتاً قوية (كاستعراضات الشباب بسياراتهم بقصد جلب الانتباه والتفاخر الفاضي بقوة وهمية للمركبة وتسلّط صاحبها) وقد رصده رجل «مباحث مرور» في الدائري الأول في الخامس من هذا الشهر!
أخبرت صديقي رجل الأمن بأنني الوحيد الذي يقود هذه السيارة، وأعلم تماماً أن الوانيت الأزرق الشقي ليس به «أكزوز» مرعب، بل لا صوت له تماماً، ولم أتحرك من مكاني في ذلك التاريخ، فقد كنت - على ما تسعفني به الذاكرة - إما في أحد مستشفيات الدولة للمراجعة الدورية، بعد أن تجاوزت السبعين عاماً وتصاحبني أمراض الكهولة الدائمة وهي تدق أجراس النهاية للسكن الأبدي في الصليبيخات أو صبحان.
أعلمني الصديق أنه سيُنهي الموضوع، وله كل الشكر والتقدير.
انتهى الأمر، والسؤال الآن ما مناسبة «مباحث المرور»؟ وهل ما ينقص الدولة في زمن الضياع هو المزيد من «البصاصين»؟ بتعبير الروائي جمال الغيطاني في رواية «الزيني بركات»... كي تبنى الاتهامات ليس على أسس قانونية كقانون الإجراءات الجزائية لتحافظ على طمأنينة الناس واستقرارهم بدولة حكم القانون، وإنما بوشايات ظالمة منبعها «رجل مباحث» (بصاص)، لا تعرف ماذا كان قصده من الوشاية الاتهامية؟ وأي حسابات كانت في وعيه ولاوعيه حتى ترمى الاتهامات جزافاً، وتتلقاها الإدارة كمسلّمات ثابتة؟!
خوش دولة قانون!