في ذلك الموقف تلقت الحركة الدستورية دعماً ثقيلاً وشخصياً من عبدالعزيز الصقر رئيس غرفة تجارة وصناعة الكويت، الذي رفع إلى الأمير عريضة موقعة من حوالي مئتي تاجر ونائب قديم، وبعض الجمعيات الخيرية، والمنظمات المهنية فضلاً عن الأوساط الفكرية والطلابية والجامعية، وجاءت العريضة لتؤكد على الروح الوطنية، وكانت تأكيداً على المحاولات، والدور الذي تصدر المشهد فيه عبدالعزيز الصقر كطرف في المعادلة السياسية، وكانت العريضة تلك بعد زيارة قام بها مع عدد من وجهاء الكويت، مثل حمود النصف، وعبدالرحمن البدر للأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح في 4 يوليو عام 1989م في قصر دسمان، ولكن السلطة استمرت قدماً في حشد الرأي العام، وما قرارها بإلغاء الندوات، وفرض الرقابة على الصحف، إلا صورة عن ذلك.
ومع حلول عام 1990م، وتحديداً في أبريل، دعا الأمير الشيخ جابر الأحمد إلى عقد انتخابات جديدة، ليس لانتخاب نواب مجلس الأمة، بل لانتخاب أعضاء مجلس جديد هو المجلس الوطني، ويبدو أنها كانت مناورة من جانب السلطة ليحل هذا المجلس مكان مجلس الأمة، وبالتالي انتزع أدواته الرقابية والتشريعية، وإن كانت بنطاق تدريجي؛ لكن تلك المناورة كانت مكشوفة للحركة الدستورية، التي استأنفت الجولات، والزيارات الميدانية في الدواوين؛ لحث الجموع على عدم المشاركة في الترشيح والانتخاب معاً، والبقاء صفاً واحداً ثابتاً.
وما لبثت أن أجريت الانتخابات في 1 يونيو 1990م؛ لتشكيل المجلس الوطني، ولم يكن الإقبال قوياً، فحاولت السلطة الدعاية والتسويق للانتخابات، ولكن المقاطعة كانت حاضرة، وأثرها واضح، وانتهى وجوده بعد التحرير؛ حيث عادت الحياة البرلمانية في مجلس الأمة؛ لتكتمل مسيرة ورؤية الشعب من خلال دستور، ودولة مؤسسات يكون فيها القانون أساساً، والدستور مرجعاً، والأمة ممثلة بنوابها في البرلمان من خلال انتخابهم انتخابات حرة نزيهة؛ ليؤدوا دورهم الرقابي والتشريعي الذي كفله لهم الدستور.
ادعاءات ومطالبات غير مقبولة
بعد أن أنهى العراق حربه مع إيران اتجه إلى جارته الكويت، ورفع سقف التوتر بينه وبينها من خلال ادعاءات ومطالبات غير مقبولة، أو حتى مفهومة من قبله من خلال لغة التصعيد والتوتر؛ مما دفع الزعماء العرب من ملوك ورؤساء إلى التوسط بينهما في محاولة جادة لرأب الصدع، وبذل المساعي المكثفة لحل المشكلة بين البلدين، فكان للمملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية اليد الطولى في ذلك، وبذلوا الوساطات العربية، إلا أن القوات العسكرية العراقية كانت تحشد في جنوب العراق على الحدود الشمالية للكويت.
وكادت الوساطة السعودية عن طريق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، تسفر عن اجتماع جدة بناء على طلبه ورغبته، وبالفعل حضره ممثلاً عن الجانب الكويتي ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، ومن الجانب العراقي عزة الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقية، ورغم أنه كان من المنتظر لهذا الاجتماع أن يؤتي ثماره، والدور المنتظر منه من احتواء الموقف المتدهور بين الكويت والعراق، إلا أن الأمور جاءت عكسية تمامًا حين أصر الوفد الكويتي على مناقشة مشكلات الحدود قبل أن تطرح أية مشكلات، أو مسائل أخرى، وكان الجانب العراقي يصر على مطالبة الكويت بـ2.4 مليار دولار، وهو التعويض الذي قدره العراق لاستخراج الكويت للنفط العراقي حسب ادعائه، وكذلك طالب العراق الكويت بقرض كويتي يصل إلى عشرة مليارات دولار إلى جانب مطالبة الكويت بشطب جميع الديون المسجلة على العراق، وظهر تشدد الوفد العراقي في مناقشاته التي أخذت طابعاً حادّاً حتى صار واضحاً أن الوفد العراقي لم يأت للتفاوض، وإنما لتقديم مطالب لا تقتصر على النواحي المالية فحسب، بل طالب بتنازل الكويت عن جزيرتي وربة وبوبيان لصالح العراق.
فما كان من الوفد الكويتي إلا أن رفض تلك المطالب جملة وتفصيلا، وقد أصر عزة الدوري على قبول المطالب العراقية دون نقاش، وادّعى أيضاً أنه يعاني من صداع شديد؛ فاقترح عقد لقاء ثان في العاصمة العراقية بغداد في6 أغسطس، واتفق الطرفان بعد إصدار بيان قصير على أنهما اتفقا على استكمال المفاوضات في بغداد في وقت لاحق.
ورجع الوفدان إلى بلديهما؛ لكن تجدر الملاحظة هنا أنه في الأول من أغسطس، وبعد وصول عزة الدوري من اجتماع جدة أذيع عبر التلفزيون العراقي عند الساعة الثامنة مساءً خبر يشير إلى عودة الوفد الحكومي من جدة بعد لقائه مع سمو الشيخ سعد العبد الله ولي عهد الكويت، غير أن الخبر أذيع مرة ثانية الساعة العاشرة مساءً بعد حذف مفردتي (سمو الشيخ) عن اسم ولي العهد الكويتي، وقد جرى ذلك بناءً على تعليمات سريعة صدرت عن حامد حمادي سكرتير رئيس الجمهورية، ولم يكن هناك من يلتقط تلك الإشارة في الساعات الأخيرة التي سبقت عبور قوات الحرس الجمهوري الحدود مع الكويت.
وقد كانت الساعات بين 29 يوليو 1990م، و2 أغسطس1990م ساعات حاسمة، حيث ستكون مسرحاً لوقائع من المفجع أن أحداً لم يشاهدها، أو يتحسسها، وكانت مقدمات العمل العسكري الواسع لاجتياح الكويت، وبعبارات أخرى كان ما يجري هو إعداداً لمشهد تفجير الصراع العسكري في الخليج من جديد، أو بعبارة أخرى كانت إعادة رسم خريطة الخليج بأيدٍ عراقية، وبحسابات عراقية، وبوجهة نظر عراقية لم يراع فيها قانوناً دوليًّا، أو حقوق الجوار، أو حتى تقييم المشهد العالمي، والوضع العالمي الجديد، إلا أن المشهد كان في الثاني من أغسطس عام 1990م يحمل شعور المفاجأة والصدمة والخوف والخذلان، وبأرض الواقع كانت قوات عربية قادمة بجحافلها لتحتل بلداً عربياً آخر، فقد كان المشهد الأول من نوعه، والفريد بحد ذاته ليصحو العالم على خبر «العراق يحتل الكويت»، وعلى صوت المذيع الكويتي من الإذاعة الكويتية يقول: «الكويت الآمنة تغتصب».
إن أحداً لم يكن يتصور في ذلك الوقت، حتى ليلة الغزو نفسها أن يصل تهور صدام إلى حد القيام بغزو الكويت، ولم يكن الكويتيون أنفسهم يتصورون ذلك، ولم يكن أحد يتوقع أن يحدث الاجتياح العراقي للكويت بعد ساعات قليلة من انتهاء لقاء جدة، ولا سيّما أن سعدون حمادي نائب رئيس الوزراء الذي كان أحد أعضاء الوفد العراقي، قال عقب انتهاء اللقاء: إن الطرفين سوف يستأنفان مباحثاتهما في بغداد يوم السبت.
وقد كانت الجموع الغفيرة الكويتية في الخارج ملتفة خلف الشرعية الكويتية، وكان عبد العزيز الصقر قد تلقى خبر تعرض بلاده للاحتلال، وهو في مستشفى هامبورغ في ألمانيا، وبينما كانت عيناه مغمضتين نصف إغماضة، وعلى الرغم من مرضه الطويل، دهش الأطباء من جبروت الرجل، ورغبته في الحياة بعد أن أمضى مدة يخضع لعمليات جراحية متتالية، فطلب من ابن أخيه محمد جاسم الصقر مرافقته من ألمانيا إلى لندن حيث يملك مسكنه الخاص، وراح يتباحث مع أبناء وطنه عن الأوضاع، ويوم قامت الحكومة ممثلة بولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله الصباح بدعوة المواطنين الكويتيين في الخارج إلى جدة للاجتماع واللقاء، كان عبد العزيز الصقر قد جهز خطاب الوطن، وكان مرافقه وأحسبه الصندوق الأسود لتلك اللحظات الخالدة من الولاء للوطن السيد محمد جاسم الصقر كونه مدعواً ومرافقاً لعبد العزيز الصقر في تلك الرحلة ذات الطابع الخاص، والتي تمت وفق الإعداد المسبق على الرغم من آلامه وتجاوز أعوامه الثمانين.
بدأ مؤتمر جدة عام 1990م بدعوة من ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، بعد كلمة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 1990م، وصرّح فيها بأن للكويتيين الحق في تقرير مصيرهم، وطبيعة الحكم الذي يريدون؛ لذا بادر الشيخ سعد بتجميع نواب مجلسي الأمة 1985 المنحل، والوطني 1990 المنتخب، وبقية أطياف الشعب، والدعوة إلى قيام مؤتمر شعبي يوضح صورة الشعب للعالم، ومطالبه من خلال التفافه نحو أسرة الحكم المتمثلة بالأمير وولي العهد، ويبدو أن إصرار الشيخ سعد العبد الله على عقده في جدة، له من المبررات ما تتوافق مع رؤيته، وأهمها أن مقر الحكومة الكويتية في المنفى كان في المملكة العربية السعودية، وعُدَّ عقد المؤتمر على أراضيها مبادرة رد للجميل من الكويت للجهات السعودية في موقفها الداعم للشرعية الكويتية.
وقد رأت الحكومة أن تكون الكلمة بعد الأمير، وولي العهد لرئيس المجلس الوطني عبدالعزيز المساعيد أو يوسف الحجي، ورأت المعارضة أن تكون لرئيس مجلس الأمة المنحل أحمد السعدون.
المهم أنه تم الإعلان عن قيام مؤتمر لجميع أطياف الشعب الكويتي الموجود خارج الكويت، وتم إخبارهم بموعده وزمانه، وفيه جرى اللقاء بالأمير وولي العهد، وتمت مبايعة أسرة الحكم في مشهد عالمي وطني كويتي خالص، أقل ما يمكن أن يقال عنه: المبايعة الثانية.
ويقول السيد محمد جاسم الصقر في روايته للأحداث: «قبل مؤتمر جدة بيومين عقد اجتماع بين الحكومة وأطياف المجتمع الكويتي، وكان حاضراً فيه أحمد السعدون رئيس مجلس الأمة السابق، وقال لهم: لو كان عبد اللطيف محمد الثنيان الغانم حيًّا لكانت الكلمة له، وبما أنه قد توفّي فالكلمة بعد الأمير، وولي العهد يجب أن تكون لأول رئيس لمجلس الأمة أي لعبد العزيز الصقر، وأصر عليها، وعندما وصل الصقر إلى جدة كان الخطاب جاهزًا، وواضعاً إياه في جيبه؛ لأنه مقتنع بأنه سيكون الشخص المناسب والمتكلم»؛ أي اتفق الجميع ليكون صوتهم، وقيل أيضاً إن ذلك كان لكبر سنه، ولمكانته السياسية؛ كونه يعد رئيس أول مجلس أمة كويتي، ولكني أضيف أن الإرث العائلي الذي يحظى به كان له دور، فقد كان آباؤه وأجداده من بايعوا صباح الأول عند نشأة الكيان السياسي الكويتي، وأن عائلة الصقر تبقى ضمن حلف العتوب الذي قدم مع أسرة الحكم من نجد.
افتتح المؤتمر الشعبي الكويتي في قصر المؤتمرات في مدينة جدة، وشارك فيه حوالي ألف شخصية كويتية، وقد استقبل المشاركون الشيخ جابر الأحمد الصباح، وولي عهده الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح بالتصفيق لمدة طويلة عند دخولهما القاعة، وجلس الأمير، وولي العهد، وإلى جانبهما رجل الأعمال والسياسي عبد العزيز الصقر إلى منصة تعلوها لافتة ضخمة كتبت عليها الآية الكريمة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران- 103]، وشعار «التحرير شعارنا. سبيلنا. هدفنا»، كما رفعت صور الملك فهد، وولي العهد السعودي الأمير عبد الله، والشيخ جابر، والشيخ سعد.
وبعد النشيد الوطني الكويتي، ثم تلاوة آيات من الذكر الحكيم، افتتح أمير الكويت المؤتمر بكلمة استعرض فيها خلفيات اجتياح القوات العراقية للكويت؛ داعياً الحاضرين للتعاون اللامحدود لتحقيق هدف سام، هو تحرير الوطن من دنس العدو المحتل مشيراً إلى ضرورة التركيز على كويت المستقبل، التي ستكون بإذن الله أكثر عزة وشموخًا، واستقراراً وأمنًا.
وجاءت كلمة ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، التي لا تقل حماسة ووطنية، وفيها أكد على أسس أربعة يقوم عليها الموقف الكويتي، وهي كالآتي:
- إن سيادة دولة الكويت، واستقلالها، وسلامة أراضيها مسألة غير قابلة للتفاوض، أو المساومة.
- إننا لا نقبل بأي حل يقلل من التنفيذ الكامل لقرارات مؤتمر القمة العربي الطارئ في القاهرة، وقرارات مجلس الأمن الدولي، التي دعت كلها إلى الانسحاب الفوري غير المشروط للقوات العراقية من كل الأراضي الكويتية، وأكدت دعمها لعودة السلطة الشرعية لدولة الكويت.
- إننا نحتفظ بحقنا في طلب التعويض من النظام العراقي عن كل ما ألحقه ببلدنا، وشعبنا من أضرار مادية ومعنوية، وكل ما سلبه من أموال الكويتيين.
- إن انسحاب القوات العراقية غير المشروط من كل الأراضي الكويتية، يجب أن يسبق أية محاولات لتسوية الخلاف الذي افتعله النظام العراقي قبل عدوانه على الكويت مباشرة، أو أية مسائل أخرى كانت معلقة بين دولة الكويت، والجمهورية العراقية قبل الغزو العراقي لدولة الكويت.
ومع حلول عام 1990م، وتحديداً في أبريل، دعا الأمير الشيخ جابر الأحمد إلى عقد انتخابات جديدة، ليس لانتخاب نواب مجلس الأمة، بل لانتخاب أعضاء مجلس جديد هو المجلس الوطني، ويبدو أنها كانت مناورة من جانب السلطة ليحل هذا المجلس مكان مجلس الأمة، وبالتالي انتزع أدواته الرقابية والتشريعية، وإن كانت بنطاق تدريجي؛ لكن تلك المناورة كانت مكشوفة للحركة الدستورية، التي استأنفت الجولات، والزيارات الميدانية في الدواوين؛ لحث الجموع على عدم المشاركة في الترشيح والانتخاب معاً، والبقاء صفاً واحداً ثابتاً.
وما لبثت أن أجريت الانتخابات في 1 يونيو 1990م؛ لتشكيل المجلس الوطني، ولم يكن الإقبال قوياً، فحاولت السلطة الدعاية والتسويق للانتخابات، ولكن المقاطعة كانت حاضرة، وأثرها واضح، وانتهى وجوده بعد التحرير؛ حيث عادت الحياة البرلمانية في مجلس الأمة؛ لتكتمل مسيرة ورؤية الشعب من خلال دستور، ودولة مؤسسات يكون فيها القانون أساساً، والدستور مرجعاً، والأمة ممثلة بنوابها في البرلمان من خلال انتخابهم انتخابات حرة نزيهة؛ ليؤدوا دورهم الرقابي والتشريعي الذي كفله لهم الدستور.
ادعاءات ومطالبات غير مقبولة
بعد أن أنهى العراق حربه مع إيران اتجه إلى جارته الكويت، ورفع سقف التوتر بينه وبينها من خلال ادعاءات ومطالبات غير مقبولة، أو حتى مفهومة من قبله من خلال لغة التصعيد والتوتر؛ مما دفع الزعماء العرب من ملوك ورؤساء إلى التوسط بينهما في محاولة جادة لرأب الصدع، وبذل المساعي المكثفة لحل المشكلة بين البلدين، فكان للمملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية اليد الطولى في ذلك، وبذلوا الوساطات العربية، إلا أن القوات العسكرية العراقية كانت تحشد في جنوب العراق على الحدود الشمالية للكويت.
وكادت الوساطة السعودية عن طريق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، تسفر عن اجتماع جدة بناء على طلبه ورغبته، وبالفعل حضره ممثلاً عن الجانب الكويتي ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، ومن الجانب العراقي عزة الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقية، ورغم أنه كان من المنتظر لهذا الاجتماع أن يؤتي ثماره، والدور المنتظر منه من احتواء الموقف المتدهور بين الكويت والعراق، إلا أن الأمور جاءت عكسية تمامًا حين أصر الوفد الكويتي على مناقشة مشكلات الحدود قبل أن تطرح أية مشكلات، أو مسائل أخرى، وكان الجانب العراقي يصر على مطالبة الكويت بـ2.4 مليار دولار، وهو التعويض الذي قدره العراق لاستخراج الكويت للنفط العراقي حسب ادعائه، وكذلك طالب العراق الكويت بقرض كويتي يصل إلى عشرة مليارات دولار إلى جانب مطالبة الكويت بشطب جميع الديون المسجلة على العراق، وظهر تشدد الوفد العراقي في مناقشاته التي أخذت طابعاً حادّاً حتى صار واضحاً أن الوفد العراقي لم يأت للتفاوض، وإنما لتقديم مطالب لا تقتصر على النواحي المالية فحسب، بل طالب بتنازل الكويت عن جزيرتي وربة وبوبيان لصالح العراق.
فما كان من الوفد الكويتي إلا أن رفض تلك المطالب جملة وتفصيلا، وقد أصر عزة الدوري على قبول المطالب العراقية دون نقاش، وادّعى أيضاً أنه يعاني من صداع شديد؛ فاقترح عقد لقاء ثان في العاصمة العراقية بغداد في6 أغسطس، واتفق الطرفان بعد إصدار بيان قصير على أنهما اتفقا على استكمال المفاوضات في بغداد في وقت لاحق.
ورجع الوفدان إلى بلديهما؛ لكن تجدر الملاحظة هنا أنه في الأول من أغسطس، وبعد وصول عزة الدوري من اجتماع جدة أذيع عبر التلفزيون العراقي عند الساعة الثامنة مساءً خبر يشير إلى عودة الوفد الحكومي من جدة بعد لقائه مع سمو الشيخ سعد العبد الله ولي عهد الكويت، غير أن الخبر أذيع مرة ثانية الساعة العاشرة مساءً بعد حذف مفردتي (سمو الشيخ) عن اسم ولي العهد الكويتي، وقد جرى ذلك بناءً على تعليمات سريعة صدرت عن حامد حمادي سكرتير رئيس الجمهورية، ولم يكن هناك من يلتقط تلك الإشارة في الساعات الأخيرة التي سبقت عبور قوات الحرس الجمهوري الحدود مع الكويت.
وقد كانت الساعات بين 29 يوليو 1990م، و2 أغسطس1990م ساعات حاسمة، حيث ستكون مسرحاً لوقائع من المفجع أن أحداً لم يشاهدها، أو يتحسسها، وكانت مقدمات العمل العسكري الواسع لاجتياح الكويت، وبعبارات أخرى كان ما يجري هو إعداداً لمشهد تفجير الصراع العسكري في الخليج من جديد، أو بعبارة أخرى كانت إعادة رسم خريطة الخليج بأيدٍ عراقية، وبحسابات عراقية، وبوجهة نظر عراقية لم يراع فيها قانوناً دوليًّا، أو حقوق الجوار، أو حتى تقييم المشهد العالمي، والوضع العالمي الجديد، إلا أن المشهد كان في الثاني من أغسطس عام 1990م يحمل شعور المفاجأة والصدمة والخوف والخذلان، وبأرض الواقع كانت قوات عربية قادمة بجحافلها لتحتل بلداً عربياً آخر، فقد كان المشهد الأول من نوعه، والفريد بحد ذاته ليصحو العالم على خبر «العراق يحتل الكويت»، وعلى صوت المذيع الكويتي من الإذاعة الكويتية يقول: «الكويت الآمنة تغتصب».
إن أحداً لم يكن يتصور في ذلك الوقت، حتى ليلة الغزو نفسها أن يصل تهور صدام إلى حد القيام بغزو الكويت، ولم يكن الكويتيون أنفسهم يتصورون ذلك، ولم يكن أحد يتوقع أن يحدث الاجتياح العراقي للكويت بعد ساعات قليلة من انتهاء لقاء جدة، ولا سيّما أن سعدون حمادي نائب رئيس الوزراء الذي كان أحد أعضاء الوفد العراقي، قال عقب انتهاء اللقاء: إن الطرفين سوف يستأنفان مباحثاتهما في بغداد يوم السبت.
وقد كانت الجموع الغفيرة الكويتية في الخارج ملتفة خلف الشرعية الكويتية، وكان عبد العزيز الصقر قد تلقى خبر تعرض بلاده للاحتلال، وهو في مستشفى هامبورغ في ألمانيا، وبينما كانت عيناه مغمضتين نصف إغماضة، وعلى الرغم من مرضه الطويل، دهش الأطباء من جبروت الرجل، ورغبته في الحياة بعد أن أمضى مدة يخضع لعمليات جراحية متتالية، فطلب من ابن أخيه محمد جاسم الصقر مرافقته من ألمانيا إلى لندن حيث يملك مسكنه الخاص، وراح يتباحث مع أبناء وطنه عن الأوضاع، ويوم قامت الحكومة ممثلة بولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله الصباح بدعوة المواطنين الكويتيين في الخارج إلى جدة للاجتماع واللقاء، كان عبد العزيز الصقر قد جهز خطاب الوطن، وكان مرافقه وأحسبه الصندوق الأسود لتلك اللحظات الخالدة من الولاء للوطن السيد محمد جاسم الصقر كونه مدعواً ومرافقاً لعبد العزيز الصقر في تلك الرحلة ذات الطابع الخاص، والتي تمت وفق الإعداد المسبق على الرغم من آلامه وتجاوز أعوامه الثمانين.
بدأ مؤتمر جدة عام 1990م بدعوة من ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، بعد كلمة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 1990م، وصرّح فيها بأن للكويتيين الحق في تقرير مصيرهم، وطبيعة الحكم الذي يريدون؛ لذا بادر الشيخ سعد بتجميع نواب مجلسي الأمة 1985 المنحل، والوطني 1990 المنتخب، وبقية أطياف الشعب، والدعوة إلى قيام مؤتمر شعبي يوضح صورة الشعب للعالم، ومطالبه من خلال التفافه نحو أسرة الحكم المتمثلة بالأمير وولي العهد، ويبدو أن إصرار الشيخ سعد العبد الله على عقده في جدة، له من المبررات ما تتوافق مع رؤيته، وأهمها أن مقر الحكومة الكويتية في المنفى كان في المملكة العربية السعودية، وعُدَّ عقد المؤتمر على أراضيها مبادرة رد للجميل من الكويت للجهات السعودية في موقفها الداعم للشرعية الكويتية.
وقد رأت الحكومة أن تكون الكلمة بعد الأمير، وولي العهد لرئيس المجلس الوطني عبدالعزيز المساعيد أو يوسف الحجي، ورأت المعارضة أن تكون لرئيس مجلس الأمة المنحل أحمد السعدون.
المهم أنه تم الإعلان عن قيام مؤتمر لجميع أطياف الشعب الكويتي الموجود خارج الكويت، وتم إخبارهم بموعده وزمانه، وفيه جرى اللقاء بالأمير وولي العهد، وتمت مبايعة أسرة الحكم في مشهد عالمي وطني كويتي خالص، أقل ما يمكن أن يقال عنه: المبايعة الثانية.
ويقول السيد محمد جاسم الصقر في روايته للأحداث: «قبل مؤتمر جدة بيومين عقد اجتماع بين الحكومة وأطياف المجتمع الكويتي، وكان حاضراً فيه أحمد السعدون رئيس مجلس الأمة السابق، وقال لهم: لو كان عبد اللطيف محمد الثنيان الغانم حيًّا لكانت الكلمة له، وبما أنه قد توفّي فالكلمة بعد الأمير، وولي العهد يجب أن تكون لأول رئيس لمجلس الأمة أي لعبد العزيز الصقر، وأصر عليها، وعندما وصل الصقر إلى جدة كان الخطاب جاهزًا، وواضعاً إياه في جيبه؛ لأنه مقتنع بأنه سيكون الشخص المناسب والمتكلم»؛ أي اتفق الجميع ليكون صوتهم، وقيل أيضاً إن ذلك كان لكبر سنه، ولمكانته السياسية؛ كونه يعد رئيس أول مجلس أمة كويتي، ولكني أضيف أن الإرث العائلي الذي يحظى به كان له دور، فقد كان آباؤه وأجداده من بايعوا صباح الأول عند نشأة الكيان السياسي الكويتي، وأن عائلة الصقر تبقى ضمن حلف العتوب الذي قدم مع أسرة الحكم من نجد.
افتتح المؤتمر الشعبي الكويتي في قصر المؤتمرات في مدينة جدة، وشارك فيه حوالي ألف شخصية كويتية، وقد استقبل المشاركون الشيخ جابر الأحمد الصباح، وولي عهده الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح بالتصفيق لمدة طويلة عند دخولهما القاعة، وجلس الأمير، وولي العهد، وإلى جانبهما رجل الأعمال والسياسي عبد العزيز الصقر إلى منصة تعلوها لافتة ضخمة كتبت عليها الآية الكريمة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران- 103]، وشعار «التحرير شعارنا. سبيلنا. هدفنا»، كما رفعت صور الملك فهد، وولي العهد السعودي الأمير عبد الله، والشيخ جابر، والشيخ سعد.
وبعد النشيد الوطني الكويتي، ثم تلاوة آيات من الذكر الحكيم، افتتح أمير الكويت المؤتمر بكلمة استعرض فيها خلفيات اجتياح القوات العراقية للكويت؛ داعياً الحاضرين للتعاون اللامحدود لتحقيق هدف سام، هو تحرير الوطن من دنس العدو المحتل مشيراً إلى ضرورة التركيز على كويت المستقبل، التي ستكون بإذن الله أكثر عزة وشموخًا، واستقراراً وأمنًا.
وجاءت كلمة ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، التي لا تقل حماسة ووطنية، وفيها أكد على أسس أربعة يقوم عليها الموقف الكويتي، وهي كالآتي:
- إن سيادة دولة الكويت، واستقلالها، وسلامة أراضيها مسألة غير قابلة للتفاوض، أو المساومة.
- إننا لا نقبل بأي حل يقلل من التنفيذ الكامل لقرارات مؤتمر القمة العربي الطارئ في القاهرة، وقرارات مجلس الأمن الدولي، التي دعت كلها إلى الانسحاب الفوري غير المشروط للقوات العراقية من كل الأراضي الكويتية، وأكدت دعمها لعودة السلطة الشرعية لدولة الكويت.
- إننا نحتفظ بحقنا في طلب التعويض من النظام العراقي عن كل ما ألحقه ببلدنا، وشعبنا من أضرار مادية ومعنوية، وكل ما سلبه من أموال الكويتيين.
- إن انسحاب القوات العراقية غير المشروط من كل الأراضي الكويتية، يجب أن يسبق أية محاولات لتسوية الخلاف الذي افتعله النظام العراقي قبل عدوانه على الكويت مباشرة، أو أية مسائل أخرى كانت معلقة بين دولة الكويت، والجمهورية العراقية قبل الغزو العراقي لدولة الكويت.