مذكرات بروفيسور سعودي
عالم اللسانيات البروفيسور حمزة المزيني، الذي شغل عدة مناصب أكاديمية، كتب مذكراته التي اختار لها عنوان «واستقرت بها النوى»، وهي رحلة استقصائية عليك أن تقطعها بقراءة 600 صفحة، يصوِّر فيها حياته، كما يصوِّر المدينة المنورة التي وُلد في إحدى ضواحيها الفقيرة، ويُفرد في الصفحات الأولى حديثاً مُفعماً بعاطفة الأمومة لوالدته، حيث كتب يقول عنها:
«كانت أمي تشتغل بأعمالٍ مختلفة، لتصرف على أطفالها الأيتام الصغار، فكانت تعتني بزراعة النعناع المشهور في منطقة الأحساء، فتنظمه في حزمٍ صغيرة، ثم تذهب يوم الجمعة إلى سوق المدينة المنورة، كما تحمل معها البيض الذي تجود به دجاجات قليلة كانت تربيها، لتبيع ذلك كُله في ساحة باب المصري، وتجلس تحت شجرةٍ كبيرة، فإذا باعت ما جلبته معها، تذهب لتشتري بثمنه ما يحتاجه أطفالها من أغراض (مقاضي). وكانت تذهب إلى الحرم النبوي الشريف، لتصلِّي أثناء هذه الرحلة الأسبوعية، وفي إحدى الرحلات اشترت أغراض البيت، ووضعتها في مكانٍ قريب من بوابة المسجد، ودخلت الحرم لتصلي - كعادتها - ولما عادت وجدت أن مشترياتها قد سُرقت، فلجأت إلى أحد الأقارب، ليقرضها ما تشتري به خبزاً لفطور الأطفال، لكنه لم يكن يملك ما يقرضها، فكانت تبكي وهي شديدة الحزن.
وكانت - يرحمها الله - متعددة المهارات، فإلى جانب عنايتها بزراعة النعناع وتربية الدجاج، كانت ماهرة في نسج السياح والفلجان وحبال الصوف، كما كانت شديدة الحرص على تعليم أطفالها في مدارسهم.
إني وأشقائي وشقيقاتي دائمو الدعاء لها، بأن يجزيها الله عنَّا كل خيرٍ، على تلك الرعاية الحانية التي أولتنا إياها، يرحمها الله».
***أبحرت مع كتاب «واستقر بها النوى» الحافل بأحداثٍ أعطتني صورة كاملة عن المدينة المنورة في أوائل الخمسينيات، وما شهدته من تطوّرٍ حتى كتابة هذه المذكرات، ثم اصطحبت هذا الرجل المكافح في معظم مراحل تحولات حياته الأكاديمية، والفكرية، ووقفت على معطياته الأدبية، والإعلامية، والكثير من المعارك التي خاضها مع العقول المتحجرة.
***من خلال الأحداث التي كتبها بقلمه السيّال، فإني أقترح على مَنْ يعتنون بالدراما التلفازية أن يهتموا بهذه المذكرات، لما احتوته من ثراءٍ اجتماعي وفكري وثقافي وسياسي، بل وفنّي، وسوف ينجزون من خلاله مسلسلاً يصوِّر الحياة العصامية في أجلى معانيها.
***وقد اشتركت مع د. المزيني في ندوة أدبية بالدمام، شاركنا فيها الشاعر شوقي بزيع، وأدارتها د. بروين حبيب، وكان يطرح أفكاراً نادرة وجديدة في كل ما كان يقوله لتحفيز الحضور على أهمية القراءة.