الموضوعية الإعلامية و«طوفان الأقصى»
غالبًا ما يُنظر إلى الإعلام على أنه «السلطة الرابعة» التي تتولى مراقبة السلطات الأخرى وضمان نزاهة القائمين عليها وشفافية تعاملاتهم، ناهيك عن نقل الأخبار الى الرأي العام المحلي والدولي، وتحليل الأحداث بشكل علمي ومهني.
من أجل ذلك، تقتضي واجبات المهنة والالتزام الأخلاقي أن يتحلى الإعلاميون بأقصى درجات الموضوعية وعدم الانحياز لأي طرف أو وجهة لنيل ثقة الجمهور والشهادة للحق وإظهار الحقيقة.
الموضوعية لا تعني أن يكون الإعلامي بلا موقف ولا رأي، ولا أن يكون الإعلام نافذة عرض صماء وبكماء، بل هي تعني الحرص الأشد على أن تتمكن الكتابة وتسمح الشاشة ويتيح الأثير نقل الأخبار والأحداث والمعاناة والانتصارات الى متلقيها في أقرب صورة الى حقيقتها الواقعية، لكي يتمكن من تكوين قناعاته بنفسه دون أي تأثير ممنهج ولا أي حكم مسبق.
ورغم ما قد يتبدى مما سبق من سمو في الواجبات ورفعة في الالتزامات، من «الموضوعي» أن نقرّ بأن تحقيق أقصى درجات الموضوعية الإعلامية مهمة صعبة لا بل هي شبه مستحيلة، وخصوصاً في عالم تسيطر فيه المصالح التجارية والتوجهات الأيديولوجية على وسائل الإعلام التي تتضاعف تدريجياً تكاليف إنشائها وموجبات انتشارها.
تزداد الموضوعية الإعلامية هشاشة، باضطرار كثير من الإعلاميين- لأسباب نفسية مختلفة وموجبات مادية ضاغطة- الى الرضوخ لسيف الرقابة المشهر بشكل علني أو سري من قبل أهل السلطة والمال بغية قمع الرأي وتحوير الاتجاهات وتزوير الحقائق وحماية المصالح لأهداف محلية أو خارجية.
ورغم ما قد يبدو من سوداوية في المشهد الإعلامي، من الجائر ارتكاب خطيئة التعميم، إذ تبقى الحقيقة نبراساً للشرفاء من الإعلاميين والحيادية منهجاً لوسائل الإعلام المتمسكة بمصداقيتها، وتبقى الموضوعية في المنطقة الوسطى بين حرية التعبير المطلقة، والرقابة الذاتية كبديل أخلاقي عن الانحياز الواضح أو الرضوخ التام للضغوط.
***
اعتاد العرب على انحياز جلّ- وربما كلّ- الإعلام الغربي ضد قضاياه المحقّة ولا سيما تلك المرتبطة بالدين الإسلامي والصراع العربي-الإسرائلي، إلا أن تجاهله الوقح لآلام الثكالى ودموع اليتامى وآلاف الشهداء من النساء والأطفال والشيوخ في غزّة، أصابت موضوعيته المزعومة في مقتل، مما يجب أن يحاسب عليه اذا ما تبقى في العالم ذرة من أخلاق، وبعض من خجل، وشيء من إنسانية!
لا يخفى على أحد أن إنشاء الكيان الصهيوني نتيجة «وعد بلفور» وكتكفير مزعوم عن المحارق النازية، حقق للغرب ثلاثة أهداف رئيسة، يأتي في مقدمتها الانتقام للهزيمة التاريخية لممالكه وجيوشه على يد صلاح الدين المرتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بحطين وفلسطين، ومن ثم تأتي الرغبة الدفينة بالتخلص من مكر اللوبيات اليهودية التي أقلقت الدول الغربية لعقود من الزمن، ناهيك عمّا يمثله من أهمية لهم زرع شوكة خبيثة ومؤلمة في خاصرة المسلمين والعرب، تقلقهم في عقر ديارهم وتلهيهم عمّا قد يكون متبقياً لديهم من دوافع دينية وطموحات سياسية باستعادة أمجاد الأندلس.
ومما لا شك فيه، أن تلك الأهداف الثلاثة ما زالت قائمة وما فتئت تسيطر على العقل الجماعي الغربي، الأمر الذي- وإن ضعف مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال- يؤججه الإعلام الغربي الممول بشكل واضح من أغنى أغنياء اليهود والمسيطر عليه من المنظمات الصهيونية العاملة بدأب ومنهجية مدروسة على ترويج الأباطيل وتزييف الحقائق والتركيز على الأحداث التي من شأنها شيطنة العرب وتقديس «الديموقراطية الاسرائيلية» المدّعاة.
فمنذ اللحظات الأولى لاندفاع الطوفان الذي أربك الكيان الغاصب وهزّ أواصر جبروته، اختلق الإعلام الإسرائيلي ومعه الإعلام الغربي كثيراً من الأكاذيب الفاضحة التي روّج لها بشكل مقصود وممنهج، ليس فقط لاستجداء التعاطف الآني من الشعوب الغربية، بل لأهداف بعيدة المدى تتعلق بأسلوب التعامل القادم مع الصراع العربي-الإسرائيلي، الذي تأكد للجميع أنه ما زال ممتداً في المكان والزمان.
فخوفاً من أي تعاطف أو تأييد أو حتى شهادة لما قد يبدو أنه انتصار استراتيجي لحركات المقاومة الفلسطينية، صوّر مقاتلوها منذ الدقائق الأولى التي تلت «الطوفان» أنهم قتلة «داعشيون» يقطعون رؤوس الأطفال ويسبون النساء ويعتدون على المدنيين في بيوتهم ومحافلهم الخاصة، الأمر الذي اضطر معه الإعلام العربي وحتى «الحمساوي» لتظهير الحقيقة بالتركيز على الجانب الإنساني والمدافعة عن ردة فعل هي بالأساس حق من حقوق المقاومة المشروعة ضد احتلال معتد على التاريخ والجغرافيا.
ومن ثم انتقل الإعلام الغربي سريعاً الى مواكبة الانحياز الكامل لحكوماته ومسؤوليه لصالح دولة الاحتلال، وما كان انتقال الرئيس الأميركي غير المسبوق الى منطقة تشهد أعمالاً عسكرية خطيرة، وتركيز الإعلام العالمي على ما رافق زيارته من تصريحات واجتماعات وتحليلات، الا مثالا على سقوط الموضوعية السياسية والإعلامية في هاوية الانحياز والظلم واللا إنسانية.
وبالمقابل لم يقصّر العرب حكومات وشعوباً وإعلاماً- كل لأسبابه وبطريقته- بمناصرة أهل غزة المنكّل بهم بأعتى الأدوات العسكرية التي يقتنيها أنجس شعوب الأرض، فكان لـ«طوفان الأقصى» ما يستحقه من التركيز والتحليل فيما أحدثه من إغراق لأسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، وكان للشهداء والجرحى الأبرياء من أهل فلسطين المحتلة ما يليق بهم من تعاطف ودعم ونقل لحقيقة مآسيهم، وإن كان كل ذلك غير كاف لاستعادة الحقوق المسلوبة، ولا يرقى الى أدنى درجات الشراكة الحقيقية في المسار والمصير!
***
فلسطين كانت وما زالت قضية العرب المركزية، ومقدساتها من حقوقنا التاريخية التي وعدنا المولى عزّ وجلّ باستعادتها، ومهما أخطأ أصحاب القضية وأخطأنا بحق أنفسنا، يبقى الرهان على موضوعية الجغرافيا وحقيقة التاريخ لا على واقع سياسي أو موضوعية إعلامية مزعومة أو مزورة.
* كاتب ومستشار قانوني.