والأيام تتشابك وتتحد مع الليالي، والموت في غزة لا يتوقف، ووجوه الأطفال صبيان وبنات تذرف الدم كثيراً والوجع المتنقل بين ساق بُترت وعين خُلعت ويد قُذفت بعيداً، فراح يبحث عنها المسعفون بين الأنقاض، وصور لحياة كانت هنا مليئةً بالفرح والحب وكثير من الدفء.
الأيام طويلة جداً بالنسبة إلينا، والليل أكثر طولاً، والشمس تأتي مثقلة، فخلفها تطفو مشاهد الموت المتنقل بين شارع وحارة ومستشفى ومدرسة وكنيسة وتجمع سكني، إذا كانت أيامنا تبدو أكثر طولاً من الأربع والعشرين ساعة، فماذا عنهم وهم يعرفون أنهم في مرمى صاروخ أو قنبلة أو قذيفة، بل كل أدوات الموت «الحديثة جداً»؟ ماذا عنهم؟ ماذا يقول الأب لابنه والأم لولدها الصغير وهويسأل: «ماما ما كل هذا الضجيج، أنا خائف؟»، ويلتصق بصدرها ليحتمي به من هول القادم؟
هذه المشاهد التي لم نعتدها رغم أننا متسمرون نتابعها بكثير من الخوف عليهم، على أهلنا وأحبتنا في غزة تتسابق الأسئلة التي لا أجوبة لها فكلنا، يسأل: «ما العمل»؟ أو «ماذا نستطيع أن نفعل»؟ أو «كيف نوقف هذه الإبادة»؟ هي ليست حرباً ولا معركة ولا فريقين متنازعين على قطعة أرض أو سلطة، بل هي إبادة مع سبق الإصرار والترصد ضد شعب لم تستطع كل آلات الموت والخوف أن تبعده عن أرضه، تعود الأسئلة: «ماذا نستطيع أن نفعل؟ كيف نساعد أهل غزة؟ كيف نوقف الموت»، على أيدي دعاة الحضارة وحقوق الإنسان والمدنية؟! ونحن ندرك أو أيقنا أنهم لا يقتلون أهلنا في غزة، بل هم يريدون الموت لنا جميعا من النيل إلى الفرات، ومن النهر إلى البحر، ومن مراكش إلى البحرين، فماذا علينا أن نفعل؟ الإجابة هي الأصعب، بعضنا تظاهر واعتصم، وهذا مهم جداً، ليقول للقائمين على الأمر هنا قبل البعيدين في واشنطن وباريس وبرلين وطبعا في ما يسمى تل أبيب، إننا لسنا مع التطبيع، ولسنا مع فتح العلاقات مع النازيين الجدد، ولسنا مستعدين أن نقبل بأن نصبح مادة للتدريس في كتب التاريخ، أو ربما مادة في الأنثروبولوجي، حيث تتربع كثير من الشعوب الأصلية الآن رغم وجودها بيننا بعد أن أبيدت على يد المستعمرين القدامى والجدد، وبعد أن استباحوا حضارتها وثقافتها، ومحوا كل ما تبقى من ملامحها، إلا ما هو «مفيد» لهم في احتفالات الفلكور المزيفة، وآخرون منا طاردوا رواياتهم، وأخذوا على عواتقهم دحر ما يروجون من أكاذيب وهم ملوك لها.
وبعضنا الآخر راح يتصدى للرواية في مجتمعاتهم وصحفهم وبين مثقفيهم يساريين ويمينيين، أما كتابهم وفنانوهم بالطبع فليسوا جميعا معها، بل كثيرون منهم أكثر إيمانا بروايتنا من كثير ممن هم بيننا أو ربما يصنعون القرارات في دولنا!!! ولكن لا يزال السؤال مع كل صورة لطفل، وهم ليسوا أرقاما، بل أسماء وحيوات وأرواح جميلة، يفاجئونك سواء في اللقاءات العابرة أو عبر الرسائل التي اكتظت بها هواتفنا: «كيف نوقف الموت؟ قلوبنا تنفطر عليهم جميعا وخاصة الأطفال؟»، وهم محاصرون هناك بقرارات من الدولة العنصرية، وكثيرون من أصدقائهم المعلنين منهم والمخفيين تحت حججهم الواهية حتى اقتنع البعض أنهم خائفون فقط، لكن قلوبهم معنا فهم منا ونحن منهم!!!
هنا ربما علينا أن نتوقف، وهنا أيضاً ربما علينا أن نعيد السؤال الذي خوفونا من إعادته، لأنه ربط بتلك المرحلة التي عملوا بكل ما أوتوا من قوة ليسقطوا كل ما ارتبط بها حتى الأغاني الوطنية منذ 1967 اختفت، ولم تعد إلا في اللحظات الصعبة، وعندما أمر «أولو الأمر» ببثها، هنا علينا أن نتوقف وربما نحدد لنا بضعة خطوط للسير:
أولها: أنه أهم أداة لمقاومة الصهاينة هي دحض روايتهم، بل أكاذيبهم فلا تصدقوهم أبداً أبداً.
ثانيها: ألا نعيد نشر ما لا نعرف مدى مصداقيته من صور وروايات، وهو مرتبط بالأمر الأول حتماً، وهو التدقيق والتمحيص، وما نشك فيه فالأفضل ألا ننشره، بل أن نمحوه من هواتفنا وأجهزتنا المتطورة!!
ثالثها: ألا نستمع كثيراً للمثقفين والليبراليين الذين يتبجحون بأنهم أكثر عقلانية وفهماً ومعرفة من أي بشر آخرين، فهم من أكثر الفيروسات خطورة بيننا، فاحترسوا منهم، وابتعدوا عنهم، ولا تتركوا لهم الفرصة لينشروا الخوف من الهزيمة، ويرددوا روايات الدجال «أفيخاي أذرعي» وغيره، حتى إن لم يكونوا مدركين لذلك.
رابعاً وخامساً وسادساً: لا تنسوا أن كل ما يحدث لأهلنا من غزة رغم الوجع المرافق له فإنه ثمن يدفعه أهلنا في غزة فقط ليعيدوا لنا كرامتنا وعزتنا ويدحضوا كثيراً مما قيل ورُوّج، ألم يُقل منذ سنين إننا أمة صوتية؟ ها هم المقاومون البواسل في غزة يعملون بصمت شديد حتى كثر من يريد أن يروّج نظريات المؤامرة المتراكمة في أدراج الأجهزة والمخابرات.
ألم يكثروا من أننا «ناقصو عقل وفكر»، ها هم رجال غزة ونساؤها يكسرون كل قببهم الحديدية ويفاجئونهم رغم كل ما يملكون من عدة هم وأصدقاؤهم، وكثيرون ممن هم محسوبون علينا!!! ما يمكن أن نفعله الآن ربما هو أن نعض على الجرح طويلاً، في حين أهل غزة هم الجرح الغائر في ضمائرنا، وأن نرفع من راياتهم ومعنوياتهم، وأن نقول لهم إننا معكم، بعضنا بالكتابة، وآخرون بنشر الرواية، وكثيرون بالمقاومة عبر المسيرات والعرائض، ولا ننسى أن بعد غزة سيكون علينا الكثير من العمل، وهو في مجمله ربما تخليصنا بأن نتطهر من كثير من رواياتهم وشوائبهم ومن يسكنون بيننا، ويأكلون معنا ويشربون، وهم في حقيقة الأمر أكثر عداء لنا لا كأفراد، بل كشعوب من ذاك الصهيوني الغاصب.
غزة وأهلها سيعلموننا كثيراً من الدروس علّنا نتعلم، علّنا نفهم، علّنا نتطهر، علنا نقوم من ذاك النوم المغلف بالخوف، أطفال غزة يواجهون الصاروخ القادم ببراءتهم وابتسامتهم ومحبتهم، فلماذا يبقى الخوف سيد أي موقف لنا؟ سنغتسل من الخوف والخنوع والسكون والاكتفاء بلقمة العيش المغمسة بكثير من الذل والمهانة.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.