في دروب الهَرَم
رسمت لحظات ثقيلة من الأيام القليلة الماضية، بعد أن أصبحت زيارة المستشفيات والأطباء الاختصاصيين مسألة روتينية كقضاء الوقت في الأكل والاسترخاء المعوي الفكري بدورة المياه. قفزت للذهن القلِق من المعاناة النفسية في شوارع السردين وجنون قائدي السيارات أبيات بدر شاكر السياب يصف حاله الكئيب عند زيارته مدينة درم البريطانية، فيقول رائد الشعر الحديث:
«درم بنفسي مما عراني برم... فمدّي ذراعيك ولتحضنيني... إلى هوة من ظلام العدم... فما قيمة العمر أقضيه أمشي بعكازة في دروب الهرم؟ أهذا شبابي؟ وأين الشباب؟ ألا حب، ألا زهو. لا عنفوان... أهذا مشيبي؟ حصدت السراب... إذا كان معنى المشيب الهوان...».
هو عجز المشيب ووحدة الذات حين تدقّ نواقيس العمر بضجيج عالٍ لتعلن عن قرب النهاية، ويُسدل الستار على خشبة مسرحية «دنيا»، فقد اشتريت تذكرة لقطار «ون واي» من شباك مصادفة حتمية مسيرة الكون، ولا يمكنك استبدال تذاكر الزمان، فالذي مضى انتهى ومخطوط على شريط الزمان/ المكان، ولا تستطيع تغييره، والقادم كذلك مرسوم على جدار الضوء لا تعرفه، ولكنه أمر محتوم.
يُفترض أن لا شيء يخيفنا من النهاية، فالفيلسوف الرواقي ـ أعتقد (ربما) أبيقور- قال لرفاقه إذا متّ فارموني في الخلاء. ردّ عليه رفاقه: ولكن ستنهشك الكلاب والحيوانات... فأجابهم: إذن أعطوني عصا أخيفها بها، فقالوا له: كيف يمكنك أن تفعل هذا وأنت ميت؟!... حصل الحكيم على إجابته... إلّا أن الواقع يخبرنا أنه لا شيء يخيفنا من النهاية، فكأنك لم تولد ولم تلج الدنيا الفانية أساساً... ما يقلقنا هو تلك الأيام والشهور والسنوات التي سنقضيها مع الأمراض والكهولة.
الخشية الوجودية الإنسانية هي أن ننسى وجودنا العابر ونغرق في «عرض الدنيا»، نتوه في تفاصيل حيواتنا اليومية في المولات، والمطاعم، ومحلات الموضة، والسفر... اختناق رهيب في زحمة الاستهلاك اليومي، متناسين الوجود الحقيقي الأصيل أننا في النهاية مجرّد حدث عابر بين الولادة والوفاة.