الفجر يطول لكنه ليس بعيداً*
توصل الليل بالصباح وأنت تردد على الآخرين وهم في مجملهم أصدقاء مقربون، وعيونهم وقلوبهم على فلسطين ودمعهم وغضبهم متساو معك، إلا أنهم ونحن بشر، وما يجري منذ أكثر من شهر بعيد عن أي وصف كان، لا تفي به كلمة مجزرة ولا حتى إبادة، كلها تتهالك أمام عين محمد وعائشة وكل أطفال غزة وهم ينظرون نحونا جميعا، نحونا كلنا ليس كعرب ومسلمين ومسيحيين ويهود بل كبشر قبل أي أمر آخر، فغزة عرّتنا جميعاً دون استثناء كعرب ومسلمين وكبشر أيضا وهو الأهم.
فماذا كشفت غزة ضمن عرينا الذي أصبح على العلن؟
أولاً: أننا كشعوب لسنا مع حكامنا حتماً، وهذا لم نكن بحاجة لغزة لنكتشفه، فكل محطة في تاريخنا القديم والحديث تكشف مدى تلك الهوة بين الحاكم والمحكوم، لا مواطنين هنا، بل كلنا رعايا دون رأي، رغم أن برلماناتنا تزيّن بعض اليافطات لتملأ الصورة المزيفة أو تزينها زيفاً، لم نوافق على اتفاقيات التطبيع، ولم نُستشَر، ولذلك انقسمنا بين من طبّل لها ربما خوفاً أو كثيرا من المنافع الشخصية جداً جداً، وآخرون فضلوا المشي «عند الحيطة ويا الله الستر»، كما يقول بعض الناقلين لجزئيات منتقاة من حكم السابقين.
ثم جاؤوا بالسفارة والسفير وطاقم متكامل، وأرسلوا سفيراً وطاقماً آخر كما هي كل السفارات في كل العالم، وفتحوا خطوط طيران فاشلة اقتصاديا لكنها سياسية حتما!!! ثم جاء السابع من أكتوبر ليفضح ضعفنا أو ربما استكانتنا أو خوفنا، وكلها مشروعة حتماً، فنحن حقا بشر.
صهاينة النازية الجديدة يعملون جهدهم ليختبروا مدى قدرتنا على تحمل القتل المتعمد للبشر قبل الحجر ولإنسانيتنا
وفضحت غزة وفلسطين كم بعدنا عن قضيتنا وعن فلسطين، دون أن نحسّ أو نعرف عندما تسلل بعضهم وبعضنا أيضاً بين صفحات الكتب والكلمات والأحرف، وأسقطوا ما يشاؤون لتلائم مخططهم البغيض، نعم مخطط فيه قلة وفاء إن لم نقل فيه خيانة لتاريخنا وتاريخ آبائنا وأجدادنا، لا ننسى أننا تعلمنا فلسطين في شوارع مدننا عندما كانت صرخة الطفل هناك تهز شوارع الوطن الكبير، وكانت الأغاني تأتي بنا جميعا، والاعتداء على فلسطين أو أحد أوطاننا هو اعتداء على الجميع.
نعم تعلمنا ذلك في مدارسنا، ربما ليس بكامله في الكتب والمناهج، لكنه كان في عقل مدرسينا ومعلمينا وكثير منهم كانوا من فلسطين، والوفاء هنا هو ما رددته مدرسة الابتدائية مرارا «من علمني حرفا كنت له عبدا»، وهم لم يعلمونا العبودية لهم بل أن نحمل القضية في قلوبنا وعقولنا، ونمضي نحارب الفكر الصهيوني أينما كان، ونقف ضد تلك العنصرية البغيضة.
شهر مضى والناس ضجت في عواصم الكون غضباً وحزناً لا تعاطفا بل إيمانا بأن ما بعد فلسطين ستسقط الإنسانية لا الإسلام والعروبة والوطنية وغيرها من القيم المهمة حقا، لكن الأهم هو ألا نفقد كبشر في قارات الأرض إنسانيتنا، وها هم صهاينة النازية الجديدة يعملون جهدهم ليختبروا مدى قدرتنا على تحمل القتل المتعمد للبشر قبل الحجر ولإنسانيتنا.
شهر مضى والناس ضجت في عواصم الكون غضباً وحزناً لا تعاطفاً بل إيماناً بأن ما بعد فلسطين ستسقط الإنسانية
ثم سقطنا كبشر خائفين حتى من نطق الكلام، دون أن يمر على الحواجز المختلفة، الأول هل هذه الكلمة ملائمة أم هي بعيدة عن الأدب؟ ثم هل تعتبر عقلانية أم عاطفية؟ نعم فالعاطفية في القضايا أصبحت تهمة كبرى بل أكبر التهم، المطلوب أن نكون منزوعي العاطفة، ثم الحاجز هل تحترم هذه الكلمة الاتفاقيات والمعايير وكل ما أسقطه الموت الذي يطارد الأطفال قبل الكبار في غزة؟ هو ذاته ما جاء بالرد القاطع كل اتفاقياتكم ومعاهداتكم و... و... كلها ليست سوى حبر على ورق، ولم يعد له قيمة، أنتم، نعم أنتم بحاجة إلى إعادة الاعتبار لهذه الاتفاقيات والمعاهدات، وإلا سنعود لشريعة الغاب، والقوي يتعاون مع القوي وكل القوى ليقتل الضعيف.
ألم تأت أميركا وبوارجها وبريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ألم يتجول وزير خارجية أكبر دولة في العالم أو هكذا يقال ليقول لنا إنه قادم لكونه يهودياً قبل أن يكون وزير لخارجية أميركا، ويعيد ويكرر وأمام أعين كل المسؤولين العرب «الكبار» منهم أنه لن يوقف الإبادة وذبح الأطفال رغم أنه أبدى بعض التعاطف وتكرم هو والآخرون للحديث عن مساعدات إنسانية؟!!
سيضحك صغارنا عندما يكبرون ويقرؤون مثل هذه الجريمة، وسينظرون لنا بكثير من الغيظ حتماً، ولكن معه الاحتقار إلا لمن يقفون هناك فوق أرض فلسطين يدافعون عن عزتهم وكرامتهم وأرضهم بلحمهم الحيّ ودم أطفالهم، وكثير من الأشلاء والعظام الطرية!!!
وكشفت غزة أيضاً أن تلك المنظومة المسماة «أمم متحدة» أو «جامعة عربية» هنا وإسلامية هناك وخليجية أيضا كلها سقطت أمام أعين الأطفال هناك في جباليا، كلها لم تعد لها قيمة بل إنها والقائمين عليها الآن لم يعرفوا أن يحافظوا على منظومة أسست بعد الحرب العالمية الثانية، لتكون أداة ردع لمن تراوده مصالحه وحقده على قتل الناس، كل الناس على مرأى من العالم دون محاسبة، ودون أن تفتح الحدود فيهرع البشر موجات خلف موجات، ليقفوا هم أيضا بأجسادهم كي لا يكبر محمد وعائشة وهند وكل أطفال فلسطين، وينظروا لنا بكثير من نظرات العتب وربما الاحتقار... نعم سيكبر الأطفال يوما ليصبحوا رجالا ونساء عاشقين للأرض أوفياء لمن رحلوا من إخوتهم وأخواتهم، وسيأتي فجر تتوقف فيه آلة القتل عن مطاردتهم ويخرجون من تحت الأنقاض منتصرين.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية