بين فولكر وأنس
عند منتصف سبعينيات القرن الماضي، طفت على الاقتصاد الأميركي أزمات مالية كالتضخّم والانكماش، وكانت تلك مناسبة لتحمّل قوى اليمين التي تمثّلها مدرسة شيكاغو الاقتصادية سبب هذه الأزمة للسياسة الليبرالية الاجتماعية التي كانت سائدة منذ الحرب الثانية - تطبيقاً لنهج فرانكلين روزفلت - وحتى ما بعده، كان هناك دعم التعليم العام بكل مراحله ودعم العلاج الطبي، وكانت السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة حتى ذلك لا تختلف عن مجمل السياسات الأوروبية، وخصوصاً دول الشمال منها، حيث التدخل الحكومي باقتصاد الدولة.
كان الاقتصاد الأميركي، في ذلك الوقت، يمثّل 60 في المئة من الاقتصاد العالمي - كما أتذكر - تقلّص بعد ذلك ليصبح أقل من 16 في المئة، عندها تبنّت الدولة الأميركية في نهايات عصر كارتر وبداية عصر رموز نيوليبرال حينها الرئيس ريغان بالولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، نهج غلّ يد الحكومة عن التدخل في الاقتصاد بأميركا، وتم تهميش قوانين الحد من الاحتكار كقانون «شرمان انتي ترست»، في مقابل تخفيض الضرائب على الشركات والمؤسسات الكبرى، وتخفيض الدعم للطبقات الفقيرة، ليزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً، وبدأ عصر جديد للعولمة بحريّة انتقال رؤوس الأموال بحثاً عن العمالة الرخيصة والملاجئ الضريبية.
طبيعي أن الذي دفع تكلفة نهج النيوليبرال السائد عالمياً هم دول الجنوب الفقيرة التي صدّرت مواردها الطبيعية الخام بأسعار تنافسية والطبقة العاملة في الدول الصناعية.
وفي ذروة ذلك العصر الـ «نيوليبرالي»، الذي رفعت فيه الإدارة الأميركية أسعار الفائدة فجأة «في خطوة أطلق عليها عام 1979 اسم صدمة فولكر، تيمناً برئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي بول فولكر»، وهدف فولكر برفع أسعار الفائدة لأرقام قياسية إلى وقف التضخم الأميركي من خلال التعجيل بالركود، وزيادة البطالة، وخفض مستويات الأجور، وصرح حينها بـ «أن مستوى معيشة المواطن يجب أن ينخفض».. (من كتاب آدم هنية، الرأسمالية والطبقية في دول الخليج العربي)، الممنوع من التداول، فهو يُعدّ - بحكم المادة 206 - جزءاً من المسكرات والمخدرات، حسب تقديرات علماء وزارة الخيبات الإعلامية.
هل نتخيل، ولو لحظة، أن يأتي وزير مالية أو رئيس وزراء يمكن أن يقول ما قاله فولكر من أن مستوى المعيشة هنا يجب أن ينخفض، مع أننا لسنا كحال الاقتصاد الأميركي الصناعي، والحكومة «ما تقصّر» تدفع لنا (الآن) دون حساب، لأن العاملين فيها من الكبير إلى الصغير مشغولون بالعمل المنتج الذي يضيف إلى فائض الخيبة (وليس القيمة)، فقضية جلب الخدم وعزل سكن العزاب وتثمين منطقة الجليب هموم كبرى لا يقدر عليها غير أهلها؟!
فالنظام الاشتراكي الرأسمالي الريعي الليبرالي المشيخي، أو نظام أي حاجة مع سلطة لا تعرف «كوعها من بوعها» لن يسمح بمثل فولكر ولا عنتر، ولنا في ردود الفعل الشعبية للتحذير الصحافي الذي أطلقه الوزير السابق أنس الصالح قبل سنوات، حين صرح بأنه يخشى على بلده من القادم.. عبرة لا تُنسى.. فأنس بعدها «ما بقى إلّا عمره».