ديفيد وغولياث أو غولايث David and Goliath
مع الاحترام لكل الأديان، تروي أسطورة في الديانة اليهودية كيف نشأت أول دولة لبني إسرائيل في فلسطين قبل أكثر من ألفَي عام، نشأت عندما انتصر جيشها على الجيش الفلسطيني بعد حرب رجل لرجل بين ديفيد اليهودي الصغير والقائد العملاق الفلسطيني غولايث، حينها كانت القوة الجسدية عاملاً حاسماً في التفوق العسكري - أسطورة عنترة بن شداد مثلاً - وغولايث العملاق الفلسطيني يهزم ويشتت الجيش الإسرائيلي في كل معركة، ويأخذه الغرور فيقترح منازلة رجل لرجل لإنهاء الحرب، ويجبُن ملك إسرائيل عن قبول التحدي، ويقبّله ديفيد الصغير وينازل باسم الرب غولايث المدجج بالسلاح، وسلاحه خمس حصوات تخترق إحداها وسط جبهة غولايث ويخرّ صريعاً ويتشتت جيشه، ولاحقاً يصبح ديفيد ملكاً ويحتلّ القدس.
تلك أسطورة وظّفت سياسياً بكثافة من قبل الفصيل الصهيوني ضمن الديانة اليهودية، والأسطورة ترمز إلى أمرين، الأول هو إبراز عدم التكافؤ في صراع الصغير ديفيد والعملاق الوحش غولايث، أو مظلومية إسرائيل، والثاني إيمان الصغير ديفيد بنصرة الرب، وسلاحه مجرد بضع حصوات، أي نقاء وسلامة العقيدة.
ولنشأة إسرائيل الثانية عام 1948 ظروف عالمية مختلفة، فسقوط الدولة العثمانية إبان الحرب الكونية الأولى، واستبدال وصايتها على فلسطين بالانتداب البريطاني في زمن ازدهار مفهوم الدول القومية في أوروبا، وعجز اليهود عن الاندماج ضمنها، دفعت بلفور البريطاني الى وعدهم بوطن قومي بفلسطين من أجل التخلص منهم، وقبلها كانت إفريقيا أو أميركا الجنوبية مقترحات لإقامة دولتهم.
ثم جاءت الحرب الكونية الثانية، ومن مآسيها مذابح اليهود على يد النازية، لتعود أسطورة ديفيد وغولايث، فيمنح من لا يملك الأرض أرضَ فلسطين المأهولة لهم، ويموّل تغولها الألماني تكفيراً عن ذنبه، ليتولّى الضحية الفتك بشعب لم يحتل أرض غيره وبريء من دماء ظلامه.
ومنذ قيام إسرائيل عام 1948، قدّمت نفسها على أنها ديفيد الصغير، أو نقطة في محيط عربي إسلامي يرغب ويعمل على إلقائها في البحر، وذلك بدا صحيحاً للرأي العام العالمي في كل الحروب العربية الإسرائيلية، عندما كانت إسرائيل تحارب ثلاثة جيوش نظامية مع دعم من جيوش أخرى. وحتى حرب غزة الأخيرة، ظل ديفيد، أو إسرائيل، قادراً على تسويق أسطورة المظلومية، وقدرته على هزيمة الشر بالنقاء والتضحية، وقطفَ ثمارَها، تأييداً غير محدود.
قلبت الحرب القائمة حالياً المفاهيم وقناعات الرأي العام العالمي، وحدثت نقلة في موقعَي بطلَي الأسطورة، وأصبح لديه تعريف معاكس لهما، ويبدو أنها قناعة لا عودة عنها، وسوف تتراكم بمرور الوقت. ولعل في بعض المقارنة نفعاً لتبيان كيف بات الرأي العام العالمي يرى انقلاب الأدوار، فمساحة غزة بحدود 365 كيلومترا مربعا، بطول 41 كيلو، وعرض يراوح في أدناه 6 كيلومترات مربعة، وأقصاه 12 كيلومترا مربعا، أي يُقطعان مشياً على الأقدام في حدود وقت يتراوح بين 75 و150 دقيقة، ومساحة إسرائيل 61 ضعف مساحة غزة.
وحجم الناتج المحلي الإجمالي لغزة بالأسعار الجارية في تقديرنا، كما في عام 2022، نحو 3.8 مليارات دولار، بنصيب للفرد منه بحدود 1.8 ألف دولار مقابل ناتج محلي إجمالي إسرائيلي بنحو 525 مليار دولار، أي بنصيب للفرد منه يبلغ 54.3 ألف دولار، ومعدل البطالة في غزة نحو 42 بالمئة، بطالة الشباب ضمنه نحو 60 بالمئة، ومعدل البطالة في إسرائيل 3.6، وعدد سكان غزة نحو 2.2 مليون نسمة يسكنون تلك البقعة الصغيرة من الأرض، وتم أخيراً ترحيل نصفهم من الشمال الى الجنوب ليتكدسوا في نحو 200 كيلومتر مربع محاصرة من كل الاتجاهات، بينما يبلغ عدد سكان إسرائيل 9.7 ملايين نسمة، لدى معظمهم جنسية أخرى أوروبية أو أميركية.
وفي حربها مع تلك البقعة الصغيرة المزدحمة من الأرض، تستخدم إسرائيل رابعَ أقوى جيش في العالم يسانده سلاح وتقنيات ومعلومات استخبارية لدول متقدمة، وفي ليلة واحدة قصفت تلك البقعة الصغيرة مئة طائرة، وفي أسبوع واحد ألقت إسرائيل عليها قنابل أكثر مما ألقته الولايات المتحدة الأميركية في سنة كاملة على أفغانستان البالغة مساحتها 1790 ضعف مساحة غزة.
ورغم ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون ويردده الغرب حول مراعاة جيش الدفاع الإسرائيلي الانتقائية في قصفه، حماية للأبرياء، وخصوصاً الأطفال، تشير أرقام الضحايا الرسمية، إلى أن نحو 40 بالمئة من القتلى هم من الأطفال، ونسبة الأطفال في إجمالي سكان غزة نحو 40 بالمئة، وبينما ترجح المقارنة أن لدى الإسرائيلي كل ما يرغب من العيش من أجله، لا يعني الموت لأهل غزة سوى إصدار شهادة وفاة رسمية لأحياء أموات.
في القديم كانت تغطيات منصات الإعلام الكبرى تحتكر توجيه الرأي العام العالمي، وتلك المنصات كانت تتلقى التوجيه فيما يُعرض وما لا يعرض، وفي صياغة الخبر من أتباع ديفيد، اليوم، بات كل فرد منصة إعلامية ومراسلاً، والأفضلية للصدقية.
لذلك، قد تعوّض إسرائيل خسائرها المادية، وقد يلفّ النسيان والغفران خسائرها البشرية، لكن ما لن يتحقق تعويضه هو خسارتها الأخلاقية والقيمية وتشدّقها بالمظلومية وحق الدفاع عن النفس. فالوقائع والأرقام قاطعة بأن غولايث الأضخم والأشد توحشاً بات إسرائيلياً، بينما ديفيد الصغير المحاصَر براً وبحراً وجواً بات فلسطينياً، مظلوميته لا تخطئها عين الأعمى.