تصاعدت في الأسابيع الأخيرة الحملة الداعية إلى مقاطعة الشركات الداعمة أو المتعاطفة مع الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد المقاومة الفلسطينية، خصوصا في ظل تنامي المأساة الإنسانية بغزة.
واستهدفت المقاطعة، بصيغتها التجارية، الوكلاء المحليين (الفرانشايز) للشركات العالمية، لا سيما في القطاعات ذات الاستهلاك اليومي المرتفع، كالأغذية أو الملبوسات أو منتجات التنظيف والتجميل، بل إن حملات المقاطعة تصاعدت في الكويت والعديد من الدول العربية، رغم إعلان عدد من الوكلاء المحليين عدم مسؤوليتهم عن مواقف الشركات الأم الداعمة لدولة الاحتلال، فيما امتدت هذه الحملات الى بعض الدول الغربية، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
كيف نفهم «الفرانشايز»؟
ويمكن فهم عقود «الفرانشايز» في كونها عقودا تجارية تسمح لشركة محلية بشراء حق استخدام علامة تجارية عالمية من خلال استخدام الاسم التجاري ونموذج العمل وحق بيع المنتج وتوفير المواد الأولية، فضلا عن إشراف الشركة الأم على ضبط جودة السلع التي يقدّمها الوكيل المحلي، مقابل أن يتحمّل صاحب «الفرانشايز» التزامات للشركة الأم كدفع الرسوم السنوية وحقوق الترخيص والتسويق، الى جانب جزء محدد من المبيعات واتّباع الأنظمة والإجراءات، لاسيما في الاستراتيجيات العامة.
وفي الحقيقة، فإن حملات المقاطعة الشعبية للبضائع التجارية تعدّ سلوكا غير مألوف في المنطقتين العربية والخليجية، بل إنها تكاد تكون معدومة في دولة مثل الكويت، رغم أنها من الدول التي تشدد، من الناحية الرسمية، في التعامل مع أي بضائع إسرائيلية يمكن أن تدخل الى البلاد، ومرجع الأمر الى ارتفاع السلوك الاستهلاكي بالتوازي مع ارتفاع مستوى الدخل وانخفاض مستوى الوعي بدور المستهلك وأثره في تحديد اتجاهات السوق وتشكيل الاتجاهات في وقت تتنامى اتجاهات المقاطعة عالميا في اتجاه قضايا متعددة بعضها غير سياسي، كمقاطعة المنتجات الضارة بالبيئة، أو التي تنتج بضائع تحت ظروف إنسانية سيئة للعمال، أو التي تستخدم منتجات معتمدة على قتل الحيوانات كالفراء والملابس والحقائب وغيرها.
المقاطعة تاريخياً
ويحمل التاريخ الإنساني الحديث العديد من حملات المقاطعة التي كُتب لها النجاح وأحدثت أثرا مستداما، أو شكّلت نقطة تحوّل في قضية معيّنة، كحملة مقاطعة السكر الذي ينتجه العبيد في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر، والتي أدت فيما بعد الى انطلاق احتجاجات ومقاطعات متتالية ساهمت في نهاية الأمر بإلغاء العبودية في البلاد، وكذلك مقاطعة منتجات مزارع العنب في منتصف القرن الماضي بالولايات المتحدة، والتي كان مزارعوها هم الأقل أجراً من أي فئة عمالية، والتي أفضت في نهايتها الى إصدار قانون فدرالي بتحسين الأجور، فضلا عن الحملة التي أطلقت نهاية ثمانينيات القرن الماضي على شركات التجميل بالولايات المتحدة، لمنعها من إجراء اختبارات لمنتجاتها على الحيوانات، فضلاً عن المقاطعة الأشهر تأثيراً التي قادها المهاتما غاندي في نضاله لاستقلال الهند عندما قاطع الهنود استخدام منتجات القطن البريطانية، لتمتد لاحقاً الى المنتجات كافة.
ولم تقتصر حملات المقاطعة الناجحة على العالم الغربي فقط، بل أيضا على الدول العربية، كمقاطعة «ترام» تونس المملوك لشركة فرنسية مطلع القرن الماضي، أي خلال فترة تعرّضها للاحتلال الفرنسي، حيث شكّلت هذه المقاطعة محطة مهمة في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وكانت تجربة أساسية للاحتجاج السلمي في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
ليست مالية فقط
ومهما كانت الآثار المتوقعة لحملة المقاطعة الحالية، فلا يمكن حصرها في سياقها المالي فقط من جهة الضغط على الشركات الأم التي تنتشر في معظم دول العالم، وبالتالي فإن المقاطعة في المنطقة العربية - وهي في كل الأحوال ليست شاملة، وبالتالي لن تؤثر بشكل مالي جوهري على إيرادات الشركات الأم لاعتبارات محدودية السوق العربي، مقارنة بأسواق العالم - تمثّل صوتا مؤثرا من الناحية الإعلامية لتسويق فكرة الهدف من المقاطعة، خصوصا في ظل الاستخدام الإيجابي لوسائل التواصل المتعددة، فضلاً عن أثر المقاطعة في الضغط على الوكلاء المحليين (الفرانشايز)، لئلا ينجرفوا مع ضغوط أو سياسات الشركات الأم، خصوصا تجاه القضايا الأخلاقية والمبدئية.
ترشيد الاستهلاك
ولعل هذه المقاطعة بعفويتها تجعل التنبؤ بمآلاتها أمراً صعباً، إلّا أنه أيضا يمكن أن تكون مقدمة لتحقيق فوائد غير مالية من المقاطعة، من خلال استخلاص دروسها وتحويلها الى منافع مستدامة، ابتداء من ترشيد السلوك الاستهلاكي على السلع غير الضرورية، مرورا بالقدرة على تعظيم وزن المستهلك في رسم سياسات السوق - كما في العديد من الاقتصادات المفتوحة - وصولا الى تعامل الدولة بجدية حقيقية مع البيانات الاقتصادية التي تشرح اتجاهات إنفاق المستهلكين وشرائحه وأثره، وطبعا بشكل أكثر دقة مما تنشره الدولة من خلال بيانات «التضخم» الشهرية، أو بيانات إنفاق الأسرة غير المنتظمة.
الابتكار المحلي
كذلك من المهم أن تلقي المقاطعة الضوء على مدى قدرة الشركات المحلية ليس فقط على خلق البدائل المحلية للمنتجات العالمية وتحفيز الابتكار، لتقليل درجة الانكشاف على أحداث المنطقة الإقليمية وتداعياتها المحلية، إنما أيضا في ربط وجودها بمصالح الاقتصاد المحلي، حيث تكون مقاطعتها ضارة للمجتمع، فلو كانت علامات «الفرانشايز» مرتبطة مثلا بتوفير فرص وظيفية معتبرة للعمالة الوطنية، أو تقدّم رعاية وتطويرا للمبادرين الشباب، لكانت مقاطعتها أصعب وأكثر تعقيدا من الوضع الحالي.
الجيل الأصغر سناً
ولعل أكثر ما يلفت النظر في حملة المقاطعة الحالية أنها جاءت مدعومة من الجيل الأصغر سنّا، أي مواليد التسعينيات وما بعد سنة 2000، وهو أمر لا يتطلب قياسه في نطاقه الاستهلاكي، إنّما في قدرة المجتمع على قياس اتجاهات الرأي العام الجديدة في دولة تمثّل الفئة العمرية دون 24 سنة نحو 50 بالمئة من إجمالي الكويتيين، ونحو الثلثين دون سن الـ 33، وهو ما يستدعي لقراءة اتجاهات المستقبل وجود جهات بحث وقياس للرأي العام تستطلع توجهات هذا الجيل وخياراته وتطلعاته، لا سيما تجاه إدارة الدولة وسوق العمل وبيئة الأعمال واستخدام التكنولوجيا والخدمات، وغيرها من المجالات التي يمكن من خلالها فهم تصورات الجيل الجديد، مقارنة بالأجيال السابقة.
لا شك في أن المقاطعة بشكلها العام تعدّ سلوكاً حضارياً ومظهراً من مظاهر الاحتجاج السلمي، والأهم أن نستخلص عِبَرها، لنقوّم انحرافاتها إن وجدت، ونضع معايير أوضح لتطبيقها بشكل يجعلها دقيقة في التنفيذ وأكثر نفعاً واستدامة.